ثم قال : فصل :  والاختلاف في التفسير على نوعين      : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك .  
والمنقول إما عن المعصوم أو غيره . ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره . ومنه ما لا يمكن ذلك . وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ، وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة  نوح   وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك . فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ، فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ، وما لا بأن نقل عن أهل الكتب  ككعب  ووهب ،  وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله صلى الله عليه وسلم :  إذا حدثكم أهل      [ ص: 440 ] الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم  
وكذا ما نقل عن بعض التابعين . وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من بعض من سمعه منه أقوى ، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين . ومع جزم الصحابي بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم .  
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه : فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ، وإن قال   الإمام أحمد     : ثلاثة ليس لها أصل : التفسير ، والملاحم ، والمغازي ، وذلك لأن الغالب عليها المراسيل .  
 [ ص: 441 ] وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا ، لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين ، مثل تفسير  عبد الرزاق ،   والفريابي ،   ووكيع ،   وعبد بن حميد ،  وإسحاق  وأمثالهم .  
أحدهما : قوم اعتقدوا معاني ، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها .  
والثاني : قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به .  
فالأولون   راعوا المعنى الذي رأوه ، من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان .  
والآخرون : راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز أن يراد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام ، ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة ، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون ، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق .  
والأولون صنفان      : تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به ، وفي كلا الأمرين قد يكونوا ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول .  
 [ ص: 442 ] فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة ، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم ، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم ، مثل تفسير  عبد الرحمن بن كيسان الأصم ،  والجبائي ،  وعبد الجبار ،  والرماني ،   والزمخشري ،  وأمثالهم .  
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة ، يدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ، حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة .  
وتفسير  ابن عطية  وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير   ابن جرير الطبري ،  وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف ، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به  المعتزلة   أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى السنة من  المعتزلة   ، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه ، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا .  
وفي الجملة : من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك ، بل مبتدعا; لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله .  
وأما الذين أخطئوا في الدليل لا في المدلول : فمثل كثير من  الصوفية   والوعاظ والفقهاء يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ، لكن القرآن لا يدل عليها ، مثل كثير مما ذكره  السلمي  في الحقائق ، فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول . انتهى كلام  ابن تيمية  ملخصا ، وهو نفيس جدا .  
وقال  الزركشي  في البرهان :  
 [ ص: 443 ] للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة      : أمهاتها أربعة :  
الأول : النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الطراز المعلم ، لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع ، فإنه كثير; ولهذا قال  أحمد     : ثلاث كتب لا أصل لها : المغازي والملاحم والتفسير .  
قال المحققون من أصحابه : مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة ، وإلا فقد صح في ذلك كثير ، كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام ، والحساب اليسير بالعرض ، والقوة بالرمي في قوله  وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة      [ الأنفال : 60 ] . قلت : الذي صح في ذلك قليل جدا ، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة ، وسأسردها كلها آخر الكتاب إن شاء الله تعالى .  
الثاني : الأخذ بقول الصحابي : فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله  الحاكم  في مستدركه .  
وقال  أبو الخطاب  من الحنابلة : يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا إن قوله ليس بحجة والصواب الأول لأنه من باب الرواية لا الرأي .  
 [ ص: 444 ] قلت : ما قاله  الحاكم  نازعه فيه   ابن الصلاح  وغيره من المتأخرين بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه مما لا مدخل للرأي فيه . ثم رأيت  الحاكم  نفسه صرح به في علوم الحديث فقال : ومن الموقوفات تفسير الصحابة .  
وأما من يقول : إن تفسير الصحابة مسند فإنما يقول فيما فيه سبب النزول ، فقد خصص هنا وعمم في المستدرك ، فاعتمد الأول . والله أعلم .  
ثم قال  الزركشي     : وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن  أحمد  ، واختار  ابن عقيل  المنع ، وحكوه عن  شعبة  ، لكن عمل المفسرين على خلافه ، فقد حكوا في كتبهم أقوالهم; لأن غالبها تلقوها من الصحابة ، وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ ، فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق ، فيحكيه أقوالا ، وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآية ، لكونه أظهر عنده ، أو أليق بحال السائل ، وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره ، والآخر بمقصوده وثمرته ، والكل يئول إلى معنى واحد غالبا ، فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا في الصحة عنه ، وإلا فالصحيح المقدم .  
الثالث : الأخذ بمطلق اللغة : فإن القرآن نزل بلسان عربي; وهذا قد ذكره جماعة ، ونص عليه  أحمد  في مواضع; لكن نقل  الفضل بن زياد  عنه أنه سئل عن القرآن ، يمثل له الرجل ببيت من الشعر ؟ فقال : ما يعجبني فقيل ظاهره المنع .  
ولهذا قال بعضهم في جواز  تفسير القرآن بمقتضى اللغة   روايتان عن  أحمد     .  
وقيل : الكراهة تحمل على صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ، ويكون المتبادر خلافها .  
وروى  البيهقي  في الشعب  عن  مالك  قال : لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا     .  
 [ ص: 445 ] الرابع : التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع : وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم   لابن عباس  حيث قال :  اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل  والذي عناه  علي  بقوله : إلا فهما يؤتاه الرجل في القرآن .  
ومن هنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل برأيه على منتهى نظره .  
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل ، قال تعالى :  ولا تقف ما ليس لك به علم      [ الإسراء : 36 ] . وقال :  وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون      [ البقرة : 169 ] . وقال :  لتبين للناس ما نزل إليهم      [ النحل : 44 ] . فأضاف البيان إليه .  
وقال صلى الله عليه وسلم :  من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ  أخرجه  أبو داود   [ ص: 446 ]  والترمذي   والنسائي  وقال :  من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار  أخرجه  أبو داود     .  
قال  البيهقي  في الحديث الأول : هذا - إن صح - فإنما أراد - والله أعلم - الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه ، وأما الذي يسنده برهان فالقول به جائز .  
وقال في المدخل : في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد به - والله أعلم - فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة ، وفي معرفة ناسخه ومنسوخه ، وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله ، وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى ، قال تعالى :  وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون      [ النحل : 44 ] . فما ورد بيانه من صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده ، وما لم يرد عنه بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد .  
قال : وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه ، فيكون موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة .  
وقال  الماوردي     : قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح ، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام ، كما قال تعالى :  لعلمه الذين يستنبطونه منهم      [ النساء : 83 ] . ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ، ولما فهم الأكثرون من كتاب الله شيئا ، وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ، ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق ، فقد أخطأ الطريق ، وإصابته اتفاق إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له .  
وفي الحديث :  القرآن      [ ص: 447 ] ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه  أخرجه  أبو نعيم  وغيره من حديث   ابن عباس     .  
فقوله : ذلول يحتمل معنيين : أحدهما أنه مطيع لحامليه تنطق به ألسنتهم .  
والثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين .  
وقوله : ذو وجوه يحتمل معنيين : أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها في التأويل .  
والثاني أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحليل والتحريم .  
وقوله : فاحملوه على أحسن وجوهه يحتمل معنيين : أحدهما الحمل على أحسن معانيه .  
والثاني : أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص ، والعفو دون الانتقام ، وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى انتهى .  
وقال  أبو الليث     : النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه ، كما قال تعالى :  فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه      [ آل عمران : 7 ] . لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجب التفسير لم تكن الحجة بالغة فإذا كان كذلك لجاز لمن عرف لغات العرب وأسباب النزول أن يفسره . وأما من لم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على وجه التفسير ، ولو أنه يعلم التفسير وأراد أن يستخرج من الآية حكما أو دليل الحكم فلا بأس به . ولو قال : المراد من الآية كذا من غير أن يسمع فيه شيئا فلا يحل ، وهو الذي نهي عنه .  
وقال   ابن الأنباري  في الحديث الأول : حمله بعض أهل العلم على أن الرأي معني به الهوى . فمن قال في القرآن قولا يوافق هواه - فلم يأخذه عن أئمة السلف - وأصاب فقد      [ ص: 448 ] أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه .  
وقال في الحديث الثاني : له معنيان :  
أحدهما : من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل - من الصحابة والتابعين - فهو متعرض لسخط الله تعالى .  
والآخر وهو الأصح : من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار .  
وقال  البغوي  والكواشي  وغيرهما :  
التأويل   صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط . غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى :  انفروا خفافا وثقالا      [ التوبة : 41 ] . قيل : شبابا وشيوخا وقيل : أغنياء وفقراء وقيل : عزابا ومتأهلين وقيل : نشاطا وغير نشاط . وقيل : أصحاء ومرضى ، وكل ذلك سائغ والآية تحتمله .  
وأما  التأويل المخالف   للآية والشرع فمحظور; لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى :  مرج البحرين يلتقيان      [ الرحمن : 19 ] . أنهما  علي  وفاطمة  يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان      [ الرحمن : 22 ] . يعني :  الحسن  والحسين     .  
وقال بعضهم : اختلف الناس في  تفسير القرآن : هل يجوز لكل أحد الخوض فيه ؟   
فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن ، وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار ، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .  
ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا  للعلوم التي يحتاج المفسر إليها ،    [ ص: 449 ] وهي خمسة عشر علما .  
أحدها : اللغة لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع . قال  مجاهد     : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب . وتقدم قول الإمام  مالك  في ذلك ، ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر .  
الثاني : النحو لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره .  
أخرج  أبو عبيد  عن  الحسن  أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال : حسن فتعلمها ، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها     .  
الثالث : التصريف لأن به تعرف الأبنية والصيغ . قال  ابن فارس     : ومن فاته علمه فاته المعظم لأن ( وجد ) مثلا كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها .  
وقال   الزمخشري     :  من بدع التفاسير   قول من قال : إن الإمام في قوله تعالى :  يوم ندعوا كل أناس بإمامهم      [ الإسراء : 71 ] . جمع ( أم ) وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم قال : وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن أما لا تجمع على إمام .  
الرابع : الاشتقاق لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح .  
الخامس والسادس والسابع : المعاني والبيان والبديع : لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها ، وبالثالث وجوه تحسين الكلام ، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر; لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وإنما يدرك بهذه العلوم .  
وقال  السكاكي     : اعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا التمرن على علمي المعاني والبيان .  
 [ ص: 450 ] قال   ابن أبي الحديد     : اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح ، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه ، وهو بمنزلة جاريتين : إحداهما بيضاء مشربة بحمرة ، دقيقة الشفتين ، نقية الثغر ، كحلاء العينين ، أسيلة الخد ، دقيقة الأنف ، معتدلة القامة ، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن ، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها ، ولا يدرى سبب ذلك ، ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة ولا يمكن تعليله ، وهكذا الكلام . نعم يبقى الفرق بين الوصفين : أن حسن الوجوه وملاحتها ، وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة .  
وأما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق ، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام ، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان ، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر ، وصارت لهم بذلك دراية وملكة تامة ، فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام ، وفضل بعضه على بعض .  
وقال   الزمخشري     : من حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه ، والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي سليما من القادح .  
وقال غيره : معرفة هذه الصناعة بأوضاعها هي عمدة التفسير المطلع على عجائب كلام الله تعالى ، وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة .  
الثامن : علم القراءات : لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض .  
التاسع : أصول الدين بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى ، فالأصولي يئول ذلك ، ويستدل على ما يستحيل وما يجب وما يجوز .  
العاشر : أصول الفقه : إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط .  
الحادي عشر : أسباب النزول والقصص : إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه .  
الثاني عشر : الناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره .  
الثالث عشر : الفقه .  
 [ ص: 451 ] الرابع عشر : الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم .  
الخامس عشر : علم الموهبة : وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث :  من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم  قال   ابن أبي الدنيا     : وعلوم القرآن وما يستنبطه منه بحر لا ساحل له .  
قال : فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها فمن فسر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه ، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه .  
قال : والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع لا بالاكتساب ، واستفادوا العلوم الأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم .  
قلت : ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول : هذا شيء ليس في قدرة الإنسان ، وليس كما ظننت من الإشكال ، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد .  
قال في البرهان : اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ، ولا يظهر له أسراره ، وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا ، أو وهو مصر على ذنب ، أو غير متحقق بالإيمان ، أو ضعيف التحقيق ، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم ، أو راجع إلى معقوله ، وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض .  
قلت : وفي هذا المعنى قوله تعالى :  سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق      [ الأعراف : 14 ] . قال   سفيان بن عيينة     : يقول أنزع عنهم فهم القرآن . أخرجه   ابن أبي حاتم     .  
وقد أخرج   ابن جرير  وغيره من طرق   ابن عباس  قال :  التفسير أربعة أوجه      : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تعلمه العلماء ،      [ ص: 452 ] وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى .  
ثم رواه مرفوعا بسند ضعيف بلفظ :  أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب  قال  الزركشي  في البرهان في قول   ابن عباس     : هذا تقسيم صحيح .  
فأما  الذي تعرفه العرب   فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم ، وذلك اللغة والإعراب . فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ، ولا يلزم ذلك القارئ ، ثم إن كان ما يتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم ، كفى فيه خبر الواحد والاثنين ، والاستشهاد بالبيت والبيتين . وإن كان يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ ، وتكثر شواهده من الشعر .  
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ، ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم ، ويسلم القارئ من اللحن ، وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ، ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه .  
وأما ما لا يعذر أحد بجهله فهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد ، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم أنه مراد الله تعالى ، فهذا القسم لا يلتبس تأويله ، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد ، من قوله تعالى :  فاعلم أنه لا إله إلا الله      [ محمد : 19 ] . وأنه لا شريك له في الإلهية وإن لم يعلم أن ( لا ) موضوعة في اللغة للنفي و ( إلا ) للإثبات ، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى :  وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة      [ البقرة : 43 ] . ونحوه طلب إيجاب المأمور به ، وإن لم يعلم أن صيغة ( افعل ) للوجوب ، فما كان من هذا القسم لا يعذر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه ، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة .  
وأما ما  لا يعلمه إلا الله تعالى   فهو ما يجري مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة      [ ص: 453 ] قيام الساعة وتفسير الروح ، والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق ، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف ، بنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله .  
وأما ما  يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم   فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك استنباط الأحكام ، وبيان المجمل وتخصيص العموم ، وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي ، فإن كان أحد المعنيين أظهر وجب الحمل عليه ، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي ، وإن استويا والاستعمال فيهما حقيقة لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية وفي الآخر شرعية ، فالحمل على الشرعية أولى إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية كما في :  وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم      [ التوبة : 103 ] .  
ولو كان في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى ، وإن اتفقا في ذلك أيضا ، فإن تنافى اجتماعهما ، ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه . وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء ، ويأخذ بالأغلظ حكما ، أو بالأخف ؟ أقوال . وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة ، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما . إذا عرف ذلك فينزل حديث :  من تكلم في القرآن برأيه  على قسمين   من هذه الأربعة :  
أحدهما تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب .  
والثاني حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم ، والتبحر في العربية واللغة . ومن الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي والخبر ، والمجمل والمبين ، والعموم والخصوص ، والمطلق والمقيد ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والمئول ، والحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية . ومن الفروع ما يدرك به الاستنباط .  
 [ ص: 454 ] وهذا أقل ما يحتاج إليه ، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول : يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به ، فأدى اجتهاده إليه فيجزم مع تجويز خلافه . انتهى .  
وقال  ابن النقيب     : جملة ما تحصل في معنى  حديث التفسير بالرأي   خمسة أقوال .  
أحدهما : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير .  
الثاني : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .  
والثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا ، فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا .  
الرابع : التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل .  
الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى .  
ثم قال : واعلم أن  علوم القرآن ثلاثة أقسام      .  
الأول : علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه ، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه ، من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو ، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعا .  
الثاني : ما أطلع الله عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له صلى الله عليه وسلم أو لمن أذن له . قال : وأوائل السور من هذا القسم ، وقيل : من القسم الأول .  
الثالث : علوم علمها الله نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها ، وهذا ينقسم إلى قسمين :  
منه  ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع      : وهو أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، والقراءات ، واللغات ، وقصص الأمم الماضية ، وأخبار ما هو كائن من الحوادث ، وأمور الحشر والمعاد .  
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ : وهو قسمان :  
قسم اختلفوا في جوازه : وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات .  
 [ ص: 455 ] وقسم اتفقوا عليه : وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية لأن مبناها على الأقيسة ، وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإرشادات لا يمتنع استنباطها منه ، واستخراجها لمن له أهلية . انتهى ملخصا .  
وقال  أبو حيان     : ذهب بعض من عاصرناه إلى أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى  مجاهد   وطاوس  وعكرمة  وأضرابهم ، وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك . قال : وليس كذلك .  
وقال  الزركشي  بعد حكاية ذلك : الحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل : كسبب النزول ، والنسخ ، وتعيين المبهم ، وتبيين المجمل ، ومنه ما لا يتوقف ويكفي في تحصيله الثقة على الوجه المعتبر . قال : وكأن السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ، ليحيل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط .  
قال : واعلم أن  القرآن قسمان      : قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد .  
والأول إما أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو رءوس التابعين .  
فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم ، أو بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه . وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة : فإن أمكن الجمع فذاك ، وإن تعذر قدم   ابن عباس  لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال :  اللهم علمه التأويل     .  
وقد رجح   الشافعي  قول  زيد  في الفرائض ، لحديث :  أفرضكم  زيد  وأما ما ورد عن التابعين : فحيث جاز الاعتماد فيما سبق فكذلك هنا ، وإلا وجب الاجتهاد .  
 [ ص: 456 ] وأما ما لم يرد فيه نقل فهو قليل ، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها ، واستعمالها بحسب السياق ، وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتضاه السياق . انتهى .  
قلت : وقد جمعت كتابا مسندا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف ، وقد تم ولله الحمد في أربع مجلدات وسميته : " ترجمان القرآن " ورأيت وأنا في أثناء تصنيفه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، في قصة طويلة تحتوي على بشارة حسنة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					