البحث الرابع : في : وهي تمييز العبادات عن العادات ليتميز ما لله عن ما ليس له ، أو تمييز مراتب العبادات في أنفسها لتتميز مكافأة العبد على فعله ، ويظهر قدر تعظيمه لربه . حكمة إيجابها
فمثال الأول : الغسل يكون تبردا ، وعبادة ، ودفع الأموال يكون صدقة شرعية ، ومواصلة عرفية ، والإمساك عن المفطرات يكون عبادة ، وحاجة ، وحضور المساجد يكون مقصودا للصلاة ، وتفرجا يجري مجرى اللذات .
ومثال القسم الثاني : الصلاة تنقسم إلى فرض ، ومندوب ، والفرض ينقسم إلى الصلوات الخمس قضاء ، أو أداء ، والمندوب ينقسم إلى راتب كالعيدين ، والوتر ، وغير راتب كالنوافل .
وكذلك القول في قربات المال ، والصوم ، والنسك ، فشرعت النية لتمييز هذه الرتب ، ولأجل هذه الحكمة تضاف صلاة الكسوف ، والاستسقاء ، والعيدين إلى أسبابها لتمييز رتبتها ، وكذلك تتعين إضافة الفرائض إلى أسبابها لتتميز ; لأن تلك الأسباب قرب في نفسها بخلاف أسباب الكفارات لا تضاف إليها لأنها مستوية .
[ ص: 243 ] وسوى أبو حنيفة - رحمه الله - بين الصلوات ، والكفارات في عدم الإضافة إلى الأسباب .
والفرق بينهما ما ذكرناه ، لا سيما ومعظم أسباب الكفارات جنايات لا قربات ، واستحضارها حالة التقرب ليس بحسن ، وأما الصلوات ، فكلها مختلفة حتى الظهر والعصر بقصر القراءة في العصر ، وطولها في الظهر .
وهذه الحكمة قد اعتبرت في ست قواعد في الشريعة ، فنذكرها ليتضح للفقيه سر الشريعة في ذلك .
وهي القربات ، والألفاظ ، والمقاصد ، والنقود ، والحقوق ، والتصرفات .
القاعدة الأولى : ، وتعظيمه ، وإجلاله ، والخوف من نقمه ، والرجاء لنعمه ، والتوكل على كرمه ، والحياء من جلاله ، والمحبة لجماله ، والمهابة من سلطانه . القربات ، فالتي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية كالإيمان بالله تعالى
وكذلك التسبيح ، والتهليل ، وقراءة القرآن ، وسائر الأذكار ، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى ، وكذلك النية منصرفة إلى الله تعالى بصورتها ، فلا جرم لم تفتقر إلى نية أخرى ، ولا حاجة إلى التعليل بأنها لو افتقرت إلى نية للزم التسلسل ، ولذلك يثاب الإنسان على نية مفردة ، ولا يثاب على الفعل مفردا لانصرافها بصورتها إلى الله تعالى ، والفعل متردد بين ما لله ، وما لغيره ، وأما كون الإنسان يثاب على نية حسنة واحدة ، وعلى الفعل عشرا إذا نوى ، فإن الأفعال مقاصد ، والنيات وسائل ، والوسائل أخفض رتبة من المقاصد .
القاعدة الثانية : الألفاظ إذا كانت نصوصا في شيء غير مترددة لم تحتج إلى نية لانصرافها بصراحتها لمدلولاتها ، فإن كانت كناية ، أو مشتركة مترددة افتقرت إلى النية .
القاعدة الثالثة : المقاصد من الأعيان في العقود إن كانت متعينة استغنت عما يعينها كمن استأجر بساطا ، أو قدوما ، أو ثوبا ، أو عمامة لم يحتج إلى تعيين المنفعة في العقد لانصراف هذه الأشياء بصورها إلى مقاصدها عادة .
[ ص: 244 ] وإن كانت العين مترددة كالدابة للحمل ، والركوب ، والأرض للزرع ، والغرس ، والبناء افتقرت إلى التعيين .
القاعدة الرابعة : النقود إذا كان بعضها غالبا لم يحتج إلى تعيينه في العقد ، وإن لم يكن احتاج إلى التعيين .
القاعدة الخامسة : الحقوق إذا تعينت لمستحقها كالدين المنقول ، فإنه معين لربه ، فلا يحتاج إلى نية مثل حقوق الله تعالى إذا تعينت له كالإيمان ، وما ذكر معه .
وإن تردد الحق بين دينين : أحدهما برهن ، والآخر بغير رهن ، فإن الدفع يفتقر في تعيين المدفوع لأحدهما إلى النية .
القاعدة السادسة : التصرفات إذا كانت دائرة بين جهات شتى لا تنصرف لجهة إلا بنية كمن أوصى على أيتام متعددة ، فاشترى سلعة لا تتعين لأحدهم إلا بالنية ، ومتى كان التصرف متحدا انصرف لجهته بغير نية ، فإن مباشرة العقد كافية في حصول ملكه في السلعة ، ومن ملك التصرف لنفسه ، ولغيره بالوكالة لا ينصرف التصرف للغير إلا بالنية ; لأن تصرف الإنسان لنفسه أغلب ، فانصرف التصرف إليه ، والنية في هذه الأمور مقصودها التمييز ، ومقصودها في العبادات التمييز ، والتقرب معا .
سؤال : هذا التقرير يشكل بالتيمم ، فإنه متميز بصورته لله تبارك وتعالى ، فلم افتقر إلى النية ؟
جوابه : أن التيمم خارج عن نمط العبادات ، فإنها كلها تعظيم ، وإجلال ، وليس في مس التراب ، ومسحه على الوجه صورة تعظيم بل هو شبه العبث ، واللعب ، فاحتاج إلى النية ليخرجه من حيز اللعب إلى حيز التقرب .
تنبيه : إذا ظهرت حكمة اشتراط النية ، فليعلم أن ملاحظتها سبب اختلاف العلماء في ، اشتراطها في صيام رمضان ، والوضوء فزفر يقول في الأول ، وأبو حنيفة - رحمه الله - يقول في الثاني : هما متعينان بصورهما ، وليس لهما رتب ، فلا حاجة إلى النية .
[ ص: 245 ] ومالك ، رضي الله عنهما يقولان : الإمساك في رمضان قد يكون لعدم المفطرات ، والوضوء قد يكون للتعليم فيحتاجان إلى ما يميز كونهما عبادة عن غيرهما . والشافعي