السنة السادسة : في الجواهر : ، وهذا قول الترتيب مالك في العتبية ، وقال الشيخ أبو إسحاق بوجوبه ، وقال ابن حبيب باستحبابه .
وجه الأول : أن الله تبارك وتعالى عدل عن حروف الترتيب ، وهي الفاء ، وثم إلى الواو التي لا تقتضي إلا مطلق الجمع ، وذلك يدل على عدم وجوبه ، وقول علي رضي الله عنه : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت ، وقال رضي الله عنهما : لا بأس بالبداية بالرجلين قبل اليدين . خرج الأثرين ابن عباس مع [ ص: 279 ] صحبة الدارقطني علي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول عمره ، فلولا اطلاعه على عدم الوجوب لما قال ذلك ، وكذلك رضي الله عنهما ، والقياس على العضو الواحد بجامع أن الآية إذا دلت على حصول الطهارة في العضو الواحد في الجملة ، فعدم وجوب الترتيب في الأعضاء أولى ; لأن النص ورد في الأعضاء بصيغة إلى الدالة على البداية والنهاية ، ومع ذلك فلم يجب ذلك ، فأولى ألا يجب ما ليس فيه دليل . ابن عباس
وأما استدلال الأصحاب بقول : ما نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا ، فلا حجة فيه على ابن مسعود لأنه لا يقول بوجوبه بين اليمين واليسار . الشافعي
حجة الوجوب : أن الله تعالى فرق بين المتناسبات في الغسل ، وهي الرجلان ، وما قبل الرأس بالرأس ، والأصل ضم الشيء إلى مناسبه ، وما خولف الأصل إلا لغرض الترتيب ; لأن الأصل عدم غيره .
وقوله عليه الصلاة والسلام ( ) ، وكان مرتبا ، وإلا كان التنكيس واجبا ، وهو خلاف الإجماع . هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
والقياس على الصلاة بجامع أن كل واحد منهما مشتمل على قربات مختلفة .
فالجواب عن الأول : أن الرجلين أيضا ممسوحتان بدليل قراءة الخفض ، ونحن نقول به حالة لبس الخفين ، فإن الماسح على خفيه يصدق عليه أنه ماسح رجليه كما يصدق على المسح بالذراع إن كان من فوق الثوب ، فلا يحصل التفريق بين المتناسبات بل الجمع بينها .
وعن الثاني : أن الإشارة في الحديث إلى غسل المرة لا إلى الجميع ، وإلا يلزم التخصيص بالزمان ، والمكان ، وهو خلاف الأصل أو تجب هذه القيود ، وهو خلاف الإجماع .
وعن الثالث : بالفرق من وجوه : أحدها أن الصلاة مقصد ، والطهارة وسيلة ، والمقاصد أعلى رتبة من الوسائل ، فلا يلزم الإلحاق .
وثانيها : أن المصلي يناجي ربه فيشبه بقارع باب على ربه لمناجاته ، فكان [ ص: 280 ] الواجب أن يقف بين يديه ، ولا يستفتح أمره بالجلوس ، ويثني بالركوع لأنه أقرب إلى حالة القيام ، ثم إذا تقرب إلى ربه بالثناء على جلاله ، والتذلل بركوعه لعظيم علائه حسن منه حينئذ هيئة الجلوس .
وأما الوضوء : فالمقصود منه طرف واحد ، وهو رفع الحدث ، وذلك حاصل باستعمال الماء في الأعضاء .
وثالثها : أن الصلاة لو لم تكن مرتبة لبطلت الإمامة لأنه لا يبقى للإمام عند المأموم ضابط يستدل به على أي ركن شرع فيه الإمام ، فتبطل مصالح الإمامة بخلاف الوضوء .
فإن فرعنا على الوجوب ، فأخل به ابتدأ عبد بن زياد ، وقيل : لا يعيد لأنا إن قلنا بوجوبه ، فليس شرطا في الصحة .
وإن فرعنا على أنه سنة ، فتركه عمدا ، فهو كالنسيان ، وقيل : يعيد على الخلاف في ؟ وأما على القول بأنه فضيلة ، واستحباب ، فلا إعادة ، وحيث قلنا يبدأ ، فإن كان بحضرة الماء ابتدأ لليسارة ، وإن بعد ، وجف وضوؤه ، فقولان بالبناء ، والابتداء . تعمد ترك السنن هل يبطل أم لا
تفريع : قال صاحب الطراز : إذا بدأ بيديه ، ثم بوجهه ، ثم برأسه ، ثم برجليه أعاد وضوءه إن كان عامدا ، أو جاهلا ، وإن كان ناسيا قال مالك : أخر ما قدم من غسل ذراعيه ، ولا يعيد ما بعده كما لو ترك غسلهما حتى طال أعادهما فقط ، وقال ابن حبيب : يؤخر ما قدم ، ثم يغسل ما يليه طال أو لم يطل ؛ لتحصيل حقيقة الترتيب ، فإنه إذا لم يعد غسل رجليه وقع غسل ذراعيه آخرا ، فلو بدأ بوجهه ، ثم رأسه ، ثم ذراعيه ، ثم رجليه أعاد عند ابن القاسم رأسه فقط فيرتفع الخلل حيث قدمه على محله ، وعند غيره يمسح رأسه ، ثم يغسل رجليه لأنه إذا لم يعد مسح رأسه ، فكأنه أسقطه فوقع غسل يديه بعد وجهه ، ولو غسل رجليه قبل ذراعيه ، والمسألة بحالها ، فعند ابن القاسم يعيد مسح رأسه لأنه ما وقع بعد يديه ، ويعيد غسل رجليه لهذه العلة ، ويتفق ابن القاسم ، وغيره ها هنا ، وإذا قلنا يعيد مسح رأسه [ ص: 281 ] وغسل رجليه ، فبدأ برجليه فيحتمل عند ابن القاسم الإجزاء ; لأن مسح الرأس يعتد به في رفع الحدث ، ووقع غسل رجليه بعد مسح رأسه ، فلا خلل فيه ، فإذا أعاد غسل رجليه فقط وقع بعد ذراعيه ، وبعد الرأس ؛ أعني في الطهارة الأولى فيحصل الترتيب بمجموعهما ، وأعاد رأسه ليقع بعد اليدين ، وعند غيره إذا مسح رأسه أعاد رجليه ليكون آخر فعله .
فإن غسل وجهه ، ثم رجليه ، ثم رأسه ، ثم ذراعيه ، فالاتفاق على أنه يعيد رأسه ، ثم رجليه لأنه قدمهما ، ورأسه على يديه فيؤخر ما قدم فيمسح رأسه ليقع ذلك بعد يديه ، ثم يغسل رجليه .
فلو أنه ، والمسألة بحالها ، بدأ برجليه ، ثم برأسه فيحتمل عند ابن القاسم أن يجزئه ; لأن مسحه رأسه الأول قد وقع بعد الرجلين أولا ، وإنما مسح رأسه الآن ليقع بعد ذراعيه ، وعند غيره يعيد رجليه بعد رأسه ليكون آخر فعله .
فلو بدأ بوجهه ، ثم رجليه ، ثم ذراعيه ، ثم رأسه أعاد رجليه فقط اتفاقا ; لأن يديه غسلت بعد وجهه ، ومسح رأسه بعد يديه فيغسل رجليه بعد رأسه ، وقد ذهب الخلل .
والأصل في هذا الباب عند ابن حبيب ، وعند عبد الملك أن المقدم على الوجه يلغى ، والمقدم على اليدين بعد الوجه يلغى ، والمؤخر بعد اليدين من قبل الرأس يلغى ، والمؤخر بعد الرأس قبل الرجلين يلغى .
وعند ابن القاسم المقدم في حكم الملغى على ما قدمه عليه ، وما وقع بعد المقدم مما ينبغي أن يتأخر عنه ، فهو مرتب عليه فيكون المقدم ملغى في حق ما تقدم عليه ثابتا في حق ما ترتب عليه ، فالذي بدأ بذراعيه ، ثم وجهه ، ثم رأسه ، ثم رجليه عند عبد الملك ، لما بدأ بذراعيه قبل وجهه كان غسل ذراعيه ملغى ، ويعيد وجهه لأنه لو استفتى حينئذ عالما لقال له : اغسل وجهك ، ويكون غسل وجهه أولا غير معتد به ، ثم كان شأنه بعد وجهه أن يغسل يديه ، فمسحه رأسه بعد وجهه ملغى لوقوعه قبل موقعه ، ولو استفتى حينئذ لقيل له : اغسل ذراعيك ، وإذا [ ص: 282 ] ألغي مسح رأسه كان الصواب أن يغسل ذراعيه ، فغسل رجليه والحالة هذه ملغى ؛ لوقوعه في غير موضعه ، فلم يبق إلا الوجه فيعيد من ذلك إلى آخر وضوئه .
وعند ابن القاسم : لما قدم يديه على الوجه كان ذلك ملغى في حق الوجه فيقع مسح رأسه بعد اليدين والوجه ، وذلك موضعه ، فرتب الرأس على سبق اليدين له ، والرجلين على الرأس ، ويبقى الخلل بين اليدين ، والوجه فقط ، فإذا أعاد غسل يديه انجبر الخلل .
وإذا بدأ بذراعيه ، ثم رأسه ، ثم وجهه ، ثم رجليه ، فعند ابن القاسم وقع اليدان مقدمتين على الوجه ، وكذلك الرأس ، والرجلان مؤخرتين عن الجميع ، وهو الصواب فيعيد يديه ، ورأسه فقط ، وعند الغير يعيد يديه ، ورأسه ، ورجليه .
فإن بدأ بالرأس ، ثم الوجه ، ثم اليدين ، ثم الرجلين ، فعند ابن القاسم يعيد رأسه ليتأخر عن يديه ، ولا يعيد رجليه ليوقعه بعد رأسه ، وعند الغير يمسح رأسه ، ثم وجهه ، فإن بدأ برأسه ، ثم رجليه ، ثم وجهه ، ثم يديه أعاد رأسه ، ثم رجليه اتفاقا .
ولو بدأ برجليه ، ثم وجهه ، ثم يديه ، ثم رأسه أعاد رجليه وفاقا .
ولو بدأ برجليه ، ثم يديه ، ثم وجهه ، ثم رأسه ، فعند ابن القاسم يعيد يديه ، ورجليه فقط ; لأن رجليه مقدمتان على ما حقهما أن تتأخرا عنه ، وكذلك يداه تقدمت على الوجه ، وحكمهما التأخير ، ومسح الرأس لم يقع مقدما على ما يتقدمه ، وعند الغير يعيد يديه ، ثم رأسه ليقع بعد اليدين ، ثم رجليه ، ولو بدأ برجليه ، ثم رأسه ، ثم وجهه ، ثم يديه لأعاد رأسه ، ورجليه وفاقا ، ولو قلت ها هنا بيديه ، ثم بالوجه أعاد يديه إلى آخر وضوئه وفاقا .
فروع خمسة :
الأول : في الجواهر : يستحب الابتداء باليمين من اليدين ، والرجلين لقوله [ ص: 283 ] عليه السلام ( إذا توضأ أحدكم ، فليبدأ بميامنه ) رواه ابن وهب ، وأدخله سحنون في الكتاب ، ولأنه متفق عليه .
الثاني : قال المازري : إذا أمر المتوضئ أربعة رجال أن يطهروا أعضاءه معا ، فقال بعض من أوجب الترتيب : هو بمنزلة المنكس لأنه لم يقدم ما وجب تقديمه .
الثالث : في الطراز : القول بالوجوب مختص بالواجب دون المسنون ، وكذلك قال - رحمه الله تعالى - لأن ما لا يجب أصله كيف يجب وصفه . الشافعي
الرابع : لو ترك الترتيب حتى صلى . قال صاحب الطراز : قال بعض المتأخرين : يعيد مراعاة للخلاف في وجوبه قال : وليس كذلك ، والفرق بين إعادة الوضوء لأجله ، وإعادة الصلاة أن إعادة الوضوء مرغب فيه بدليل الأمر بالتجديد بخلاف الصلاة لقوله عليه السلام ( ) . لا تصلوا في يوم مرتين
الخامس : إذا نكس مسنون وضوئه ، فبدأ بالوجه قبله . قال صاحب الطراز : إن كان ساهيا لم يعد وجهه ، قال مالك - رحمه الله تعالى - وإن كان جاهلا ، أو عامدا ، فظاهر الموطأ أنه لا شيء عليه ، وقال ابن حبيب : يبتدئ الوضوء ، وسوى بين المفروض ، والمسنون .
سؤال : ندب الشرع لتقديم اليمنى من اليدين ، والرجلين ، والجنبين في الغسل ، والوضوء ، ولم يندب لتقديم اليمنى من الأذنين ، أو الفودين ، أو الخدين ، أو الصدغين ، ونحو ذلك ، فما الفرق ؟
جوابه : أن أولئك الأعضاء المقدمة اشتملت على منافع تقتضي شرفها ، فقدمها الشرع لذلك .
بيانه : اليد اليمنى فيها من الحرارة الغريزية والقوة ، ووفور الخلق ، والصلاحية للأعمال ما ليس في اليسار ، وذلك أن الخاتم يضيق في اليمنى [ ص: 284 ] ويتسع في اليسار ، وكذلك القول في الرجلين ، ومن اعتبر ذلك وجده مقتضى الخلقة الأولى ما لم تعارضه عادة فاسدة عن الخلق الأصلي .
وأما الأذنان ، ونحوهما ، فمستويان في المنافع وصفات الشرف ، فلم يقدم الشرع يمين شيء من ذلك على يساره ، وقدم الجنب الأيمن لاشتماله على الأعضاء الشريفة المذكورة .
تذييل : يبدأ بالأعالي في الطهارة لشرفها ؛ لما اشتمل عليه الوجه من الحواس ، والنطق ، ويثني باليدين لكثرة دخولهما في الطاعة ، وغيرها ، ويقدم الرأس على الرجلين لشرفه ؛ لما اشتمل عليه من القوى المدركة ، والحكمة ، وقدم الفم على الأنف لشرفه بالذوق ، والنطق ، وقدم الفرجان محافظة على الطهارة من النقض .