الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو كانت تحيض على الحمل تركت الصلاة واجتنبها زوجها ولم تنقض بالحيض عدتها ؛ لأنها ليست معتدة به ، وعدتها أن تضع حملها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد أجرى الله سبحانه العادة في أغلب أحوال النساء أن ينقطع عنهن الحيض في مدة الحمل لما ذكر أن الله تعالى يجعله غذاء للجنين وربما برز الدم في حال الحمل ؛ إما لأنه أكثر من غذاء الجنين ، وإما لضعف الجنين عن الاغتذاء بجميعه فيخرج فاضل الدم ، ويكون على صفة الحيض وقدره ، ولا خلاف بين الفقهاء أنها لا تعتد به واختلف قول الشافعي فيه ، هل يكون حيضا تجتنب فيه ما تجتنب النساء في الحيض أو يكون دم فساد لا حكم له ؟ على قولين : أحدهما : وهو قوله في القديم ، وبه قال أبو حنيفة : لا يكون حيضا ويكون دم فساد لا تمنع فيه من الصلاة وإتيان الزوج استدلالا بقوله : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام [ الرعد : 8 ] فأخبر أن الحيض يفيض مع الحمل فدل على أن ما ظهر من الدم ليس بحيض ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض فجعل براءة الرحم بكل واحد منهما فدل على تنافي اجتماعهما ، ولأنه دم لا تنقضي به العدة فوجب أن لا يكون حيضا كدم الاستحاضة على الحمل ، ولأن الحيض على الحمل في ذوات الأقراء ليس بدال على براءة الرحم ، فلو حاضت لما دلت على براءة الرحم منه ولكانت العدة غير مقتضية .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الجديد وبه قال مالك أنه يكون حيضا في تحريم الصلاة والصيام واجتناب الزوج وإن لم تنقض به العدة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : إن لدم الحيض علامات وأمارات ، إنه الأسود الثخين المحتدم ، فأما إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فوجب اعتبار هذه الصفة في جميع الأحوال وتعليق الحكم عليها إذا وجدت ، ولأن الحيض والحمل لا ينافي اجتماعهما سنة وإجماعا واستدلالا .

                                                                                                                                            وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على عائشة تبرق أسارير وجهه ، فلما رأت بريق أساريره قالت : يا رسول الله : أنت أحق بما قاله أبو كبير الهذلي .

                                                                                                                                            ومبرإ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل     وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
                                                                                                                                            برقت كبرق العارض المتهلل

                                                                                                                                            [ ص: 199 ] يعني أنه قد برئ أن تكون أمه حملت به وهي حائض ؛ لأن ما تحمله في الحيض يكون غبر اللون كمداء ، وما يحمله في الطهر وضيء الأسارير صافي اللون ، وكانت هذه صفته .

                                                                                                                                            وقوله : وداء مغيل : الوطء على الحمل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم أردت أن أنهى عن الغيلة يعني وطء الحامل حتى قيل لي : إن نساء الروم يفعلن ذلك ولا يضرهن فموضع السنة المستدل بها من هذا الخبر أن عائشة رضي الله تعالى عنها نزهت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمل به في حيض أمه وعن غيلتها بصفته التي يخالف حال من حملت به في حيضتها ، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا القول وما أنكره منها ، ولو خالف الشرع لأنكره ونهى عنه مع قوله في الغيلة : " أردت أن أنهى عنها ثم عرفت أن الروم لا يضرهم " يريد في الحمل الحادث منه فدل ذلك من قوله ومن إقراره على أنه لا يتنافى في اجتماع الحيض والحمل وأما الاجتماع فما روي أن رجلين تداعيا ولدا وتنازعا فيه إلى عمر رضي الله تعالى عنه فدعي له القافة فألحقوه بهما ، فدعا له عجائز قريش وسألهن عنه فقلن : إنها حملت به من الأول وحاضت على الحمل فاستخشف الولد ، فلما تزوج بها الثاني انتعش بمائه فأخذ الشبه منه ، فقال عمر : الله أكبر ، وألحق الولد بالأول ، وكانت هذه القصة شهدها المهاجرون والأنصار ، وسمعوا ما جرى فأقروا عليه ولم ينكروه ، فدل على إجماعهم عليه .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال فهو ما انعقد الإجماع عليه فيمن وطئ في حيض أو عقد نكاحا على حائض فجاءت بولد لستة أشهر من وطئه وعقده في الحيض أن الولد لاحق به لوجود زمان حمله من وقت وطئه وعقده ، فدل ذلك من إجماعهم على جواز حملها في الحيض ، ولولا ذلك لاعتبروا ستة أشهر من بعد انقضاء حيضتها ، فإن فرقوا بين علوق الولد وبين الحمل جوزناه قياسا ، فقلنا : إن كل حالة لا تنافي علوق الولد لا تنافي الحمل كالطهر ؛ لأنه لما صح حدوث الحمل على الحيض صح حدوث الحيض على الحمل ؟ لأنهما لا يتنافيان ؛ ولأن ما تأخر به الحيض في الغالب لم يمنع من ثبوت حكمه إذا حدث نادرا كالرضاع ، لأن الحيض يتأخر به الحمل ؛ ولأن الأقراء في العدة أقوى من الشهور ، والحمل فيها أقوى من الأقراء ، فلما انتقلت إلى الحمل مع وجود الشهور جاز أن تنتقل إلى الحمل مع وجود الأقراء ، وهذا استدلال المزني وفيه انفصال .

                                                                                                                                            [ ص: 200 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية