الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فكان بينا - والله أعلم - في كتابه أنه أخرج الزوج من قذف المرأة بالتعانه ، كما أخرج قاذف المحصنة غير الزوجة بأربعة شهود مما قذفها به " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال القاذف لزوجته من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن تصدقه على القذف ، وتصديقها أن تقر بالزنا الذي رماها به فيسقط عنه حكم القذف ، ويجوز أن يلاعن لرفع الفراش ونفي النسب .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يلاعن إذا صدقت ؛ لأن اللعان عنده شهادة ، والشهادة لا تقام على مقر والكلام معه يأتي .

                                                                                                                                            [ ص: 7 ] والحالة الثانية : أن تكون منكرة للزنا لكنه يقيم البينة عليها بالزنا . فيسقط عنه حد القذف ، ويجوز له أن يلاعن قبل إقامة البينة وبعدها لرفع الفراش ونفي النسب ، وقال بعض التابعين : لا يجوز أن يلاعن مع وجود البينة لقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم [ النور : 6 ] .

                                                                                                                                            والدليل على جوازه - وهو قول الجمهور - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وزوجته ولم يسألهما ألكما بينة أم لا ؟ فدل على جوازه في الحالين ، ولأن اللعان يفيد ما لا تفيده الشهادة من رفع الفراش ونفي النسب ، فصارت الشهادة مقصورة على إسقاط حقها ، وفي اللعان إثبات حقه وإسقاط حقها ، فجاز مع وجودها لعموم حكمه ، فأما الآية فخارجة مخرج الشرط لا مخرج الخبر .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن تكون غير مصدقة له وليس له بينة عليها بالزنا ، فيجوز أن يلاعن بإجماع ، وهي الحال التي لاعن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وزوجته ، وليس اللعان بواجب عليه وإن جاز له ، ولا إذا لاعن وجب اللعان عليها وإن جاز أن تلاعن ، بل الزوج بالخيار في لعانه ، فإن لم يلاعن حد للقذف ، ولا حد عليها ولا لعان ، وإن لاعن الزوج سقط عنه حد القذف ووجب حد الزنا عليها ، فإن لاعنت سقط عنها حد الزنا ، ولا يجبر واحد منهما على اللعان .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : اللعان واجب عليها ، فإن امتنع الزوج من اللعان يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن وجب اللعان على الزوجة ، فإن لاعنت وإلا حبست حتى تقر ، ولا يجب الحد على واحد منهما .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة على وجوب اللعان عليهما وسقوط الحد عنهما بقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] الآية وفيها دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قابل القذف باللعان فدل على وجوبه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لم يورد للحد ذكرا فدل على سقوطه ، قال : ولأن وجوب الحد زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، والنسخ لا يثبت بقياس ولا استدلال ، قال : ولأن الله تعالى نص على اللعان في قذف الأزواج وعلى الحد في قذف الأجانب ، فلما لم يجز نقل اللعان إلى الأجانب لم يجز نقل الحد إلى الأزواج ، قال : ولأن قذف الزوج لو أوجب عليه الحد لما جاز له إسقاطه بنفسه ، ولو وجب حد الزنا عليها كالبينة لما كان لها سبيل إلى إسقاطه عنها ، فدل ذلك على أن الحد لم يجب عليهما ، قال : ولأن اللعان القذف ، فلو كان الحد قد وجب بالقذف لما سقط بتكرار القذف .

                                                                                                                                            [ ص: 8 ] ودليلنا قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] فكان على عمومه في الأجانب والأزواج ، فإن قيل : هذا منسوخ في الأزواج بآية اللعان ، قيل : آية اللعان تقتضي زيادة حكم في قذف الأزواج ، وورود الزيادة لا توجب سقوط الأصل ، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية حين قذف زوجته : البينة أو حد في ظهرك يكررها عليه مرارا ، فدل على وجوب الحد في قذفه .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا منسوخ بآية اللعان ؛ لأن نزولها أسقط عنه المطالبة بالحد كما أسقط عنه المطالبة بالبينة ، فاقتضى أن يكون نزولها موجبا لسقوط الحد كما كان موجبا لسقوط البينة ، قيل : هذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن اللعان ، إما أن يكون يمينا على قولنا أو شهادة على قولهم ، وكلاهما لا يقعان إلا عن مطالبة بحق تقدمهما ، ولا يجبر أحد عليهما .

                                                                                                                                            والثاني : أن سقوط الحد باللعان لا يمنع من وجوبه عند عدم اللعان كالبينة .

                                                                                                                                            ولأن ما دل على تحقيق القذف لم يمنع عدمه من وجوب الحد كالبينة فيصير هذا الانفصال قياسا مجوزا ؛ ولأن الزوج لو أكذب نفسه بعد القذف وجب عليه الحد بوفاق أبي حنيفة ، فلولا وجوبه قبل الإكذاب لما جاز أن يجب عليه بالإكذاب ، لأن تكذيب نفسه تنزيه لها من القذف ، فلم يجز أن يجب به حد القذف .

                                                                                                                                            وتحرير هذا الاستدلال قياسا : أن كل قاذف وجب الحد عليه بإكذاب نفسه ، وجب الحد عليه بابتداء قذفه كالأجنبي ، ولأن كل قذف وجب به الحد على غير الزوج ، وجب به الحد على الزوج كالعبد والمكاتب .

                                                                                                                                            فإن قيل : العبد والمكاتب ممن لا يصح اللعان منهما ، قيل : عندنا يصح اللعان منهما فلم تسلم هذه الممانعة ، ثم تفسد عليهم بالحر إذا كان تحته أمة وهو من أضل اللعان ، ولا حد عليه في هذا القذف .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن وجهي استدلالهم بقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ذكر في آية اللعان ما له من الحق في قذفه ، وذكر في آية القذف ما عليه من الحق في قذفه ، وليس يمتنع أن يجتمع في قذفه حق له وحق عليه فلم يتنافيا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه داخل في عموم آية القذف ، ومخصوص بزيادة حكم في اللعان فلم يتعارضا .

                                                                                                                                            [ ص: 9 ] أما الجواب عن قوله : إنها زيادة على النص فتعتبر نسخا فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن كليهما نص فلم يكن ناسخا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الزيادة على النص لا تكون عندنا نسخا ، لأن النسخ يكون فيما لا يمكن الجمع بينهما ، والجمع هاهنا ممكن فلم تعتبر نسخا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : لما لم يجز نقل اللعان إلى الأجانب لم يجز نقل الحد إلى الأزواج فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن آية القذف عامة ، فدخل فيها الأزواج ، وآية اللعان خاصة ، فخرج منها الأجانب ، فلم يجز اعتبار إحدى الآيتين بالأخرى .

                                                                                                                                            والثاني : أن علة الحد القذف ، وهو موجود في الأزواج فساوى فيه الأجانب ، وعلة اللعان الزوجية ، وهو معدوم في الأجنبي فخالف فيه الأزواج . وأما الجواب عن قولهم : إنه لو وجب عليه الحد ما كان له إسقاطه بنفسه ، فهو أن اللعان إما أن يكون يمينا على قولنا أو شهادة على قولهم ، ولكل واحد منهما مدخل في الإبراء من الحقوق فلم يمتنع أن يسقط به الحد . وأما الجواب عن قولهم : إن اللعان تكرير القذف ، فلم يسقط به حد القذف فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يمين أو شهادة ، ولا يكون واحد منهما قذفا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مأمور باللعان عندنا على طريق الجواز وعندهم على وجه الوجوب ، والقذف منهي عنه وغير داخل في الحكمين ، فبطل بهذين أن يكون قذفا . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية