الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو مات الزوج الأول والآخر ولا يعلم أيهما مات أولا بدأت فاعتدت أربعة أشهر وعشرا ؛ لأنه النكاح الصحيح الأول ، ثم اعتدت بثلاثة قروء " . قال الماوردي : وصورتها أن تتزوج امرأة المفقود بالحكم بعد مدة التربص ، ثم يموت الزوجان أو أحدهما فالكلام متوجه إلى بيان حكمي العدة ، والميراث ، فذلك مبني على عقد الثاني : هل هو صحيح أو فاسد ، فإن قيل بصحته ، وأن نكاح الأول قد انفسخ بالحكم على قوله في القديم نظر في الميت منهما ، فإن كان هو الأول فلا ميراث لها منه ولا عدة عليها له ، وإن كان الميت هو الثاني فلها ميراثه ، وعليها أن تعتد منه عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر ، فإن لم يعلم أيهما هو الميت فلا عدة عليها ولا ميراث لها : لأن الزوج منهما هو الثاني وهي شاكة في موته فكانت باقية على نكاحه حتى يتيقن موته فتعتد منه وترثه . وإن قيل بفساد نكاح الثاني وبقائها على نكاح الأول لم يخل حال من مات منهما من أربعة أقسام : إما الأول أو الثاني أو أحدهما لا بعينه أو هما جميعا معا . [ ص: 326 ] فأما القسم الأول وهو أن يموت الأول دون الثاني فهو الزوج الموروث ، فعليها أن تعتد منه عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا ، ولا يكون أولها وقت الموت ؛ لأنها قد صارت فراشا للثاني بخلاف ما لو كانت باقية على فراش الأول ، فإذا فرق بينها وبين الثاني بدأت بعدة الأول واستحقت ميراثه . وأما القسم الثاني : وهو أن يموت الثاني دون الأول فلا ميراث لها منه ؛ لأنه ليس بزوج يورث ، وعليها أن تعتد من موته بالأقراء دون الشهور ؛ لأنها عدة استبراء لا عدة زوجية ، فتعتد بثلاثة أقراء من وقت موته بخلاف موت الأول . والفرق بينهما : أنها فراش للأول بالعقد وفراش للثاني بالوطء فراعينا في عدة الأول أن تبتدئها بعد رفع فراش الأول : لأنه ثابت مستحق . وأما القسم الثالث : وهو أن يموت أحدهما ولا يعلم الميت منهما فعليها أن تعتد أكثر الأجلين من أربعة أشهر وعشر ، أو ثلاثة أقراء ، فإن كان الأول هو الميت فقد انقضت عدته بأربعة أشهر وعشر ، وإن كان الثاني هو الميت فقد انقضت عدته بثلاثة أقراء . وأما القسم الرابع : وهو أن يموتا معا فلا يخلو حال موتهما من أربعة أقسام : إما أن يتقدم موت الأول ، وإما أن يتقدم موت الثاني ، وإما أن يموتا في حال واحدة ، وإما أن يجهل المتقدم منهما . فأما القسم الأول ، وهو أن يتقدم موت الأول ثم يموت الثاني بعده فتبدأ بعدة الأول من بعد موت الثاني بأربعة أشهر وعشر ، ثم تعتد للثاني بعد انقضاء عدة الأول بثلاثة أقراء ولها ميراث الأول دون الثاني . وأما القسم الثاني وهو أن يتقدم موت الثاني ، ثم يموت الأول بعده ، فأول عدتها من الثاني من وقت موته ، ثم يراعى موت الأول ، فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يموت بعد قضاء عدة الثاني فقد وفت عدة الثاني ، وعليها أن تستأنف عدة الأول من وقت موته بأربعة أشهر وعشر . والحال الثانية : أن يموت الأول في تضاعيف عدة الثاني ، كأنه مات بعد قرء واحد من عدته فتقطع وفاة الأول عدة الثاني لصحة عقده وقوة حقه وتعتد منه بأربعة أشهر وعشر ، فإذا استكملتها عادت فتمت عدة الثاني ، وبنت على ما مضى منها وهو قرء واحد فتأتي بقرأين ، وقد حلت من العدتين ، وهكذا لو وطئت زوجة رجل بشبهة فشرعت في الاعتداد من وطئه ، ثم طلقها الزوج في تضاعيف عدتها أو مات عنها انقطعت عدة الوطء ، ولزمها أن تعتد للزوج من طلاقه أو موته ، فإذا أكملت عدته [ ص: 327 ] عادت فتمت عدة الواطئ بشبهة لقوة حق الزوج على حقه بصحة عقده . والحال الثالثة : أن يجهل ما بين موتهما فيلزمها أن تعمل على أغلظ الأمرين ، وهو أن تبتدئ بعدة أقرب الموتين بعدة الوفاة عن الأول أربعة أشهر وعشرا ، ثم تعتد بعدها عن الثاني بثلاثة أقراء . وأما القسم الثالث : وهو أن يموتا في حال واحدة فقد اجتمع عليها عدتان لا يتداخلان فتقدم عدة الأول لصحة عقده وقوة حقه فتعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، ثم تعتد بعد انقضائها عن الثاني بثلاثة أقراء ، فلو لم يعلم بموتهما حتى مضت عليها العدتان حلت ؛ لأن العدة مضى زمان لا يعتبر فيه النية ، ثم قد مضى الزمان فوجب أن يقع به الاعتداد . وأما القسم الرابع : وهو أن لا يعلم أيهما تقدم موته فلا يجوز أن يقع الاعتداد بما بين الموتين ، وإن كان معلوم القدر ؛ لأنه قد يجوز أن يتقدم موت الثاني فتعتد به من أقرائه ، ويجوز أن يتقدم موت الأول فلا يعتد به من شهوره فلم يجز مع الإشكال أن تعتد به في حق واحد منهما ، فأما ما بعد الموتتين فلا يخلو أن يكون معلوما أو غير معلوم ، فإن كان معلوما كان محسوبا من شهور الأول ، ولا يحتسب من أقراء الثاني ، لأن عدة الأول مقدمة على عدة الثاني ، فإذا استكملت أربعة أشهر وعشرا استأنفت للثاني ثلاثة أقراء ، وإن كان ما بعد الموتين مجهولا استظهرت فيه بأقرب عهده وأقربه عهدا مسافة ، فإن كان الموت على مسافة شهر احتسب بشهر من عدة الأول ، وبنت ، وإن كان حتى تستيقن بعد الموتين على مسافة عشرة أيام احتسبت بها ثم بنت استكمال أربعة أشهر وعشر وثلاثة أقراء ، فأما إن كانت عند موتهما حاملا فحبلها لاحق بالثاني دون الأول فتنقضي به عدة الثاني ، وإن تأخر موته ، لأن الحمل لا يعتد بوضعه إلا ممن هو لاحق به ، ثم عليها أن تعتد بعد الوضع بأربعة أشهر وعشر عن الأول ، وهل تحتسب بمدة النفاس فيها أم لا : على وجهين : أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : لا تحتسب مدة نفاسها في عدة الأول ؛ لأن النفاس من توابع العدة الفاسدة فكان في حكمها . والوجه الثاني : وهو قول الجمهور ، والظاهر من كلام الشافعي أنها تحتسب مدة النفاس من عدة الأول ؛ لأنها بالولادة خارجة عن عدة الثاني ، وتحل للأزواج لو حلت من عدة أخرى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية