الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون

هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان، ومما قصده، وذلك غير متوجه; لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص - حسب ما ذكره بعد - يضعف أن تكون مما قاله لقمان، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة، وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر، ولما فرغ من هاتين الآيتين [ ص: 47 ] عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار: "وقال أيضا لقمان"، ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه.

وهذه الآية شرك الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل، وبدرجة ذكر الرضاع، فتحصل للأم ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم - حين قال له رجل -: من أبر؟ قال: "أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك" فجعل له الربع من المبرة كالآية.

و وهنا على وهن معناه: ضعفا على ضعف، وقيل: إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولادة بعده، وقيل: إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف، فكأنه لم يعين ضعفين، بل كأنه قال: حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمده. وقرأ عيسى الثقفي : "وهنا على وهن" بفتح الهاء، ورويت عن أبي عمرو . وهما بمعنى واحد.

وقرأ جمهور الناس: "وفصاله"، وقرأ الحسن، والجحدري، ويعقوب: "وفصله"، وأشار بالفصال إلى تحديد مدة الرضاع، فعبر عنه بغايته ونهايته، والناس مجمعون "على العامين" في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين لا زيادة ولا نقص، وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم، وقالت فرقة: إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم.

وقوله تعالى: أن اشكر يحتمل أن يكون التقدير: بأن اشكر، ويحتمل أن تكون [ ص: 48 ] مفسرة، وقال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما. وقوله تعالى: إلي المصير توعد أثناء الوصية.

وقوله تعالى: وإن جاهداك الآية. روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص ، وذلك أن أمه - وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية - حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دينه ويرجع إلى دين آبائه وقومه، فلج سعد في الإسلام، ويروى أنها كانت إذا أجهدها العطش شجوا فاها، ويروى: شجروا، أي: فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها، فلما طال ذلك ورأت أن سعدا لا يرجع أكلت، ففي هذه القصة نزلت الآيات، قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وواطأت الآية الأولى ببر الوالدين وحكمه، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل، فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها.

وقوله: وصاحبهما في الدنيا معروفا يعني: الأبوين الكافرين، أي: صلهما بالمال، وادعهما برفق، ومنه قول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم - وقد قدمت عليها خالتها، وقيل: أمها من الرضاعة - فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، وراغبة، قيل: معناه: عن الإسلام.

[ ص: 49 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد، وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.

وقوله تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي وصية لجميع العالم، كأن المأمور الإنسان، و"أناب" معناه: مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين، وحكى النقاش أن المأمور سعد ، والذي أناب أبو بكر رضي الله عنهما، وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان ، وطلحة ، وسعيد ، والزبير ، فقالوا: آمنت؟ قال: نعم، فنزلت فيه أمن هو قانت آناء الليل ، فلما سمعها الستة آمنوا، فأنزل الله تعالى فيهم والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى إلى قوله تعالى: أولئك الذين هداهم الله . ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور، والرجوع للجزاء، والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية