الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور ، حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة ، وكان ينهى أصحابه عن الوصال ، فيقولون له : إنك تواصل ، فيقول : ( لست كهيئتكم إني أبيت - وفي رواية : إني أظل - عند ربي يطعمني ويسقيني ) .

وقد اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين .

أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم ، قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ، ولا موجب للعدول عنها .

الثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعمه بحبه ، والشوق إليه ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ، ونعيم الأرواح ، وقرة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه ، وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل :


لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد     لها بوجهك نور تستضيء به
ومن حديثك في أعقابها حادي     إذا شكت من كلال السير أوعدها
روح القدوم فتحيا عند ميعاد



ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد [ ص: 32 ] قرت عينه بمحبوبه ، وتنعم بقربه ، والرضى عنه ، وألطاف محبوبه وهداياه ، وتحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتن بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ، ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ، ولا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا ؟ ولهذا قال : ( إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ) .

ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا ، وأيضا فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلا ، ولقال لأصحابه - إذ قالوا له : إنك تواصل - : " لست أواصل " . ولم يقل : " لست كهيئتكم " ، بل أقرهم على نسبة الوصال إليه ، وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق ، كما في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان فواصل الناس ، فنهاهم فقيل له : أنت تواصل . فقال : إني لست مثلكم ، إني أطعم وأسقى ) .

وسياق البخاري لهذا الحديث : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقالوا : إنك تواصل . قال : ( إني لست مثلكم ، إني أطعم وأسقى ) . وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال . فقال رجل من المسلمين : إنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) .

وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ، ثم يوما ، ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم . كالمنكل لهم [ ص: 33 ] حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال .

وفي لفظ آخر: ( لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ، إني لست مثلكم ، أو قال : إنكم لستم مثلي ، فإني أظل يطعمني ربي ويسقيني ) فأخبر أنه يطعم ويسقى مع كونه مواصلا ، وقد فعل فعلهم منكلا بهم معجزا لهم ، فلو كان يأكل ويشرب لما كان ذلك تنكيلا ولا تعجيزا ، بل ولا وصالا ، وهذا بحمد الله واضح .

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة للأمة ، وأذن فيه إلى السحر ، وفي " صحيح البخاري " عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ) .

فإن قيل : فما حكم هذه المسألة ، وهل الوصال جائز أو محرم أو مكروه ؟ قيل : اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جائز إن قدر عليه ، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، وكان ابن الزبير يواصل الأيام ، ومن حجة أرباب هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بالصحابة مع نهيه لهم عن الوصال ، كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، أنه نهى عن الوصال وقال : ( إني لست كهيئتكم ) فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ، فهذا وصاله بهم بعد نهيه عن الوصال ، ولو كان النهي للتحريم لما أبوا أن ينتهوا ، ولما أقرهم عليه بعد ذلك .

قالوا : فلما فعلوه بعد نهيه وهو يعلم ويقرهم ، علم أنه أراد الرحمة بهم والتخفيف عنهم ، [ ص: 34 ] وقد قالت عائشة : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ) . متفق عليه .

وقالت طائفة أخرى : لا يجوز الوصال ، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري رحمهم الله ، قال ابن عبد البر ، وقد حكاه عنهم : إنهم لم يجيزوه لأحد ، قلت : الشافعي رحمه الله نص على كراهته ، واختلف أصحابه هل هي كراهة تحريم أو تنزيه ؟ على وجهين ، واحتج المحرمون بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : والنهي يقتضي التحريم .

قالوا : وقول عائشة : " رحمة لهم " لا يمنع أن يكون للتحريم ، بل يؤكده ، فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم ، بل سائر مناهيه للأمة رحمة وحمية وصيانة .

قالوا : وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا لهم ، كيف وقد نهاهم ، ولكن تقريعا وتنكيلا ، فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم ، وبيان الحكمة في نهيهم عنه بظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها ، فإذا ظهرت لهم مفسدة الوصال وظهرت حكمة النهي عنه كان ذلك أدعى إلى قبولهم وتركهم له ، فإنهم إذا ظهر لهم ما في الوصال وأحسوا منه الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم وأرجح من وظائف الدين من القوة في أمر الله ، والخشوع في فرائضه ، والإتيان بحقوقها الظاهرة والباطنة - والجوع الشديد ينافي ذلك ويحول بين العبد وبينه - تبين لهم حكمة النهي عن الوصال ، والمفسدة التي فيه لهم دونه .

قالوا : وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الراجحة بأعظم من إقرار الأعرابي على البول في المسجد لمصلحة التأليف ، ولئلا ينفر عن الإسلام ، ولا بأعظم من إقراره [ ص: 35 ] المسيء في صلاته على الصلاة التي أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها ليست بصلاة ، وأن فاعلها غير مصل ، بل هي صلاة باطلة في دينه ، فأقره عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ ، فإنه أبلغ في التعليم والتعلم.

قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) .

قالوا : وقد ذكر في الحديث ما يدل على أن الوصال من خصائصه . فقال : ( إني لست كهيئتكم ) ولو كان مباحا لهم لم يكن من خصائصه .

قالوا : وفي " الصحيحين " من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ) .

وفي " الصحيحين " نحوه من حديث عبد الله بن أبي أوفى . قالوا : فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر ، وذلك يحيل الوصال شرعا .

قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال أمتي على الفطرة ، أو لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ) .

[ ص: 36 ] وفي " السنن " عن أبي هريرة عنه : ( لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ، إن اليهود والنصارى يؤخرون ) .

وفي " السنن " عنه قال : قال الله عز وجل : ( أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا ) .

وهذا يقتضي كراهة تأخير الفطر ، فكيف تركه ، وإذا كان مكروها لم يكن عبادة ، فإن أقل درجات العبادة أن تكون مستحبة .

والقول الثالث وهو أعدل الأقوال : أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر ، وهذا هو المحفوظ عن أحمد وإسحاق ، لحديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ) . رواه البخاري .

وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم ، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر ، فالصائم له في اليوم والليلة أكلة ، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية