الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون

[ ص: 603 ] الضمير في: "عليهم" عائد على كفار قريش. و"الآيات": هي آيات القرآن وحروفه بقرينة قوله تعالى: "تتلى"، وعابت هذه الآية سوء مقاولتهم، وأنهم جعلوا بدل الحجة التمني المتشطط والطلب لما قد حتم الله تعالى ألا يكون إلا إلى أجل مسمى.

وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد ، وابن عامر -فيما روى عنه عبد الحميد-، وعاصم -فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه-: "حجتهم" بالرفع على اسم "كان" والخبر في "أن"، وقرأ جمهور الناس: "حجتهم" بالنصب على مقدم واسم كان في "أن".

وكان بعض قريش قد قال: أحي لنا قصيا -فإنه كان شيخ صدق- حتى نسأله، إلى غير ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : "ائتوا" من حيث المخاطبة له، والمراد هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكر هولهم، فجاء من ذلك جملة قيل لها: "ائتوا" و"إن كنتم".

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالحال السالفة في علم الله تعالى التي لا تبدل، وهي أنه يحيي الخلق ويميتهم بعد ذلك ويحشرهم بعد إماتتهم إلى يوم القيامة، وقوله سبحانه: لا ريب فيه أي: في نفسه وذاته، والأكثر الذي لا يعلم هم الكفار، و"الأكثر" هنا على بابه.

وقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة قالت فرقة: العامل في: "يوم" قوله تعالى: "يخسر"، وجاء قوله تعالى: "يومئذ" بدلا مؤكدا. وقالت فرقة: العامل في: "يوم" فعل يدل عليه الملك، وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض، لأن ذلك يتبدل، فكأنه تعالى قال: ولله ملك السماوات والأرض والملك يوم القيامة، وينفرد "يخسر" بالعمل في قوله تعالى: "يومئذ"، و "المبطلون": الداخلون في الباطل.

وقوله تعالى: وترى كل أمة جاثية وصف حال القيامة وهولها، والأمة: الجماعة العظيمة من الناس التي قد جمعها معنى أو وصف شامل لها، وقال مجاهد : الأمة: الواحد من الناس.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قلق في اللغة، وإن قيل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم: أمة، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن [ ص: 604 ] ساعدة، فذلك تجوز على جهة التشريف والتشبيه.

و "جاثية" معناه: على الركب، قاله مجاهد والضحاك ، وهي هيئة المذنب الخائف المعظم، وفي حديث: "فجثا عمر رضي الله عنه على ركبتيه" . وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: في القيامة ساعة قدر عشر سنين، يخر الجميع فيها جثاة على الركب.

وقرأ جمهور الناس: "كل أمة تدعى إلى كتابها" بالرفع على الابتداء. وقرأ يعقوب: "كل أمة تدعى" بالنصب على البدل من "كل" الأولى، إذ في "كل" الثانية إيضاح موجب الجثو. وقرأ الأعمش : "وترى كل أمة جاثية تدعى" بإسقاط "كل أمة" الثانية.

واختلف المتأولون في قوله تعالى: "إلى كتابها" فقالت فرقة: أراد: إلى كتابها المنزل عليها فتحاكم إليه، هل وافقته أو خالفته؟ وقالت فرقة: أراد: إلى كتابها الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة، فباجتماع ذلك قيل له: كتابها، وهنا محذوف [ ص: 605 ] يدل عليه الظاهر، تقديره: فيقال لهم: اليوم تجزون .

وقوله تعالى: هذا كتابنا يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة، أو إلى اللوح المحفوظ، قال مجاهد ، ومقاتل : يشهد بما سبق فيه من سعادة أو شقاء، أو تكون الكتب الحفظة، وقال ابن قتيبة : هي إلى القرآن.

واختلف الناس في قوله تعالى: إنا كنا نستنسخ فقالت فرقة: معناه: نكتب، وحقيقة النسخ وإن كانت أن ينقل خط من أصل ينظر فيه، فإن أعمال العباد هي في هذا التأويل كالأصل، فالمعنى: إنا كنا نقيد كل ما عملتم. وقال الحسن: هو كتب الحفظة على بني آدم، وروى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس، فينقل من الصحف التي رفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون عليه ثواب أو عقاب، ويلغى الباقي، قالت فرقة: فهذا هو النسخ من أصل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: معنى هذه الآية أن الله تعالى يجعل الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ثم يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك فتقيد أيضا، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ألستم عربا؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟

التالي السابق


الخدمات العلمية