الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

الدكتور / يوسف إبراهيم يوسف

تقديم بقلم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي أنزل القرآن، ليكون للناس شرعة ومنهاجا، يحدد أهداف الخلق، ومقاصد الدين، يبصرنا برحلة الحياة، ويعرفنا بعلوم النشأة والمصير، ويبين لنا موقع الإنسان من الكون، وعلة خلقه، ووظيفته في الحياة، وسبيل قيامه بأعباء الاستخلاف الإنساني، أداء لأمانة التكليف، وتحقيقا للعبودية، التي خلق من أجلها، واستشعارا للمسئولية عن العمل، انطلاقا من توفر القناعة، وتحقيقا لحرية الاختيار، وحملا لرسالة استنقاذ البشرية، والشهادة عليها، وقيادتها إلى الخير، وإلحاق الرحمة بها، وبناء المجتمع الإسلامي المتكافل، مجتمع الكفاية والعدل، الذي يشكل النواة التي تثير الاقتداء، وتغري بالاتباع، بعيدا عن الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، حيث يتوقف فيه تسلط الإنسان على الإنسان، الأمر الذي كان ولا يزال مصدر الشر في العالم، وتتحقق حماية المجتمع، وذلك بعدم الاقتصار على بيان معالم المنهج، ومسالك المسيرة البشرية، وإنما بوضع الحدود والضوابط، وتأمين السلطة الرقابية، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تضمن - إلى جانب إيقاظ الوازع الداخلي - ديمومة تنمية دوافع الخير، وتغلبها على نوازع الشر، حماية من السقوط. [ ص: 7 ]

والصلاة والسلام على المبين عن ربه، الذي كان دعاؤه: ( اللهم ارزق آل محمد كفافا ) (رواه مسلم ) ، الذي تجسد الوحي الإلهي في سيرته وسنته، فكانت حياته الصورة العملية، لتقديم الأنموذج، في تحويل القيم إلى برامج، والفكر إلى فعل، والنظرية إلى تطبيق، من خلال عزمات البشر.. فأقام المجتمع الإسلامي - مجتمع خير القرون - على عين الوحي، ليكون محل الأسوة والقدوة، بحيث يكون اتباعه، ومحاكاته، وتمثل علاقاته، استجابة للتكليف الشرعي: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ ) [رواه أحمد ]، والمعلوم أن النواجذ هـي أقوى، وآخر، ما يتبقى من الأسنان، وبعد:

فهذا كتاب الأمة السادس والثلاثون: " إنفاق العفو في الإسلامي بين النظرية والتطبيق " ، للدكتور يوسف إبراهيم يوسف ، في سلسلة " كتاب الأمة " ، التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة بإعادة بناء شخصية المسلم المعاصر، وتقويم سلوكه، وضبط حركته، بقيم الكتاب والسنة، وفك قيود الارتهان، والتحكم الثقافي، والسياسي، والتورط الاقتصادي، والانعتاق من أسر المذاهب، والمؤسسات، والقوالب، التي فرضها عليه مناخ الاستعمار، وامتدت به إلى ما بعد عصر الاستعمار، من التبعية، والتخلف، من أجل أن يسترد ذاته، [ ص: 8 ] ويكتشف طاقاته المعطلة، ليستأنف دوره، الذي ناطه الله به، مستثمرا إمكاناته الروحية، والذهنية، كشروط لا بد منها لتحقيق التوثب الروحي، واستعادة الفاعلية، وإبصار طريق العمران البشري، الذي ينسجم مع نسقه الحضاري، ومعادلته الاجتماعية، في ضوء قيمه، واستصحاب تطبيقها في الواقع، من خلال الشخصية الحضارية التاريخية للأمة المسلمة، بعيدا عن الأنماط الاستعمارية، لحضارة الغالب المفروضة عليه.

وقد تكون المعادلة الصعبة، المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم، هـي في انتمائه لماض متألق، على الأصعدة المتعددة، ومعاناته لواقع متخلف على مختلف الأصعدة أيضا، على الرغم من أن أمته المسلمة، صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة، تمتلك الخطاب الإلهي السليم، الذي يمنحها الطاقات الفاعلة، والقيم الروحية، ويشكل لها مركز الرؤية الحضارية. كما تمتلك الإمكانات، والطاقات المادية الهائلة المركوزة في بلادها، والتي يمكن - لو أحسن توظيفها - أن تتحكم بحركة العالم، وتعين وجهته، إضافة إلى التراث العظيم، الذي يشكل بحق قسمات الشخصية الحضارية التاريخية، كدليل للعمل، والتعامل، واستعادة الذات، وتحريك الفاعلية.

لكن قد تكون المشكلة حقيقة، في الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم المعاصر، فأعادت تشكيله وفق الأنماط الاستعمارية، حيث [ ص: 9 ] بدأت تجري عليه سنة التقليد والمحاكاة، حتى لا يرى معالجة مشكلاته، وقضاياه، إلا من خلال القوالب، والأوعية، والمناهج، والمذاهب، والمقاييس، التي اكتسبها من خلال المناهج المعرفية، التي طبقت عليه، وشكلت شخصيته، بعيدا عن قيمه، ونسغه الحضاري، ونسقه المعرفي، وإذا امتلك موقف اختيار في هـذه الحالة، فإنما يكون بين الحلول، والأشكال المطروحة، من خلال حضارة الغالب، أو على أحسن الأحوال، يقوم بمحاولة مقاربتها ببعض مواريثه الثقافية - كنوع من التعويض عن مركب النقص - لكنه يبقى عاجزا عن ارتياد طريق آخر، هـو الطريق الإسلامي المتميز، وامتلاك القدرة على الإبداع من خلاله.

وأعتقد أن هـذا اللون من الزيغ والانشطار الثقافي، هـو الذي يتحكم بالواقع الإسلامي اليوم، وتلمح آثاره، ومظاهره، على مختلف الأصعدة، حيث لا يزال السؤال الكبير والملح، مستمرا:

كيف يمكن لنا الخروج من نفق التخلف؟

وعلى الرغم من هـذا الزمن المتطاول، والضائع، فلم نعثر بعد، على سبيل متفق عليه للخروج، يجمع طاقات الأمة، ويستعيد فاعليتها، ويشد قواها، لحل تلك المعادلة، والإقلاع من جديد. [ ص: 10 ]

والذي زاد الطين بلة، أن الذي يمتلك التقدم المعاصر - على الأقل في الجوانب المادية - هـو الآخر، الذي كان في يوم من الأيام هـو السيد المستعمر، وكان هـو أحد الأسباب الرئيسة للسقوط في وهدة التخلف، وهو الذي لا يزال يتحكم - بشكل أو بآخر - ويسهم باستمرار التخلف، لذلك باءت بالفشل محاولات التحديث، والنهوض، التي حاولتها بعض بلاد العالم الإسلامي، وعلى رأسها تركيا الكمالية، عندما رأت: أن التحديث والتنمية والنهوض، إنما يتم من خلال الانسلاك في منظومته الحضارية، وأنماطه الثقافية جميعها، كما فشلت خطط التنمية كلها في بلاد العالم الإسلامي، التي قامت على استيراد الخطط، والبرامج، والخبراء، لأن تلك الخطط، إنما نبتت وتكاملت من خلال الظروف الخاصة بالمجتمعات الأخرى، وجاءت ثمرة لمعادلة الإنسان النفسية، والاجتماعية في تلك المجتمعات.

لذلك رأينا، أن الذين حاولوا استيراد الخطط، والخبراء، والبرامج، كما يستوردون الطعام، واللباس، والدواء، والحذاء، دون الالتفات إلى تلك المعادلة، وتلك الخصوصية، لم يزيدوا الأمة إلا ارتكاسا، وتخلفا، وارتهانا، واعتمادا على الآخر. فالواقع الذي نعيشه، والصورة التي انتهت إليها الخطط المستوردة لتنمية العالم الإسلامي، والعالم الثالث بشكل عام، أكبر دليل على ذلك، وإن كان يحلو لبعضهم المماراة بالباطل، ومحاولة الإلقاء بالتبعة على فساد التطبيق، [ ص: 11 ] وليس على الخلل في الخطط المستوردة نفسها، وبعدها على معادلة الإنسان النفسية، والاجتماعية، التي تحول دون التفاعل معها، والاستجابة لها، لأنها في نظرهم جربت، ونجحت في أماكن أخرى، ولم يسألوا أنفسهم - ولو مرة واحدة - عن سبب فساد التطبيق الذي يدعونه، وسبب عدم تحقق الانسجام بين الهيكل المستورد، والروح الذاتية للأمة.

ونحن لا نريد بهذا إغلاق الأبواب والنوافذ، وعدم الإفادة من التجارب العالمية، في إطار التبادل المعرفي، خاصة وأن العالم أصبح اليوم دولة واحدة، تأثرا وتأثيرا، وإنما ندعو إلى إعطاء خصوصية الأمة وثقافتها، وعقيدتها، بعدها الصحيح، في عملية التنمية والنهوض، ذلك أن أية عملية نهضوية تتجاهل هـذه الخصوصية، وتفتقد عنصر الارتكاز إلى عقيدة الأمة، وإبداع آليات التعامل، والتكيف معها، محكوم عليها بالإخفاق، ذلك أنه في معادلة التبادل المعرفي، نجد الفرق واضحا بين التاجر الذي يسافر ليستورد، ويعود ليسوق البضائع الأجنبية، وبين التلميذ الذي يرتحل ليتعلم، ويعود ليدرك عوامل الإنتاج، وعناصره، وإمكاناته، ومعادلة إنسانه، فينتج، ويبدع من خلال استصحاب تلك الشروط كلها، كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله.

وقد تكون مشكلة التنمية، ومعاودة النهوض، واستعادة فاعلية الأمة، [ ص: 12 ] مشكلة معرفية، أو بتعبير آخر: مشكلة ثقافية، أو مشكلة مفاهيم بالدرجة الأولى.

ذلك أن مفهوم التنمية في غالب الأحيان، أصبح يقتصر على الجانب الاقتصادي المادي، ويرتبط إلى حد بعيد، بالعمل على زيادة الإنتاج، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الاستهلاك، لدرجة أصبحت معها حضارات الأمم، تقاس بمستوى دخل الفرد، ومدى استهلاكه السنوي، بعيدا عن تنمية خصائصه، وصفاته، ومزاياه، وإسهاماته الإنسانية، وإعداده لأداء الدور المنوط به في الحياة، وتحقيق الأهداف التي خلق من أجلها.

ولا بد من الاعتراف بأن قضية التنمية، ومفهوماتها، لها فلسفاتها المختلفة، التي تتبلور من خلال القيم الاعتقادية، والظروف النفسية، والتاريخية، والأزمات المادية، التي تمر بها كل أمة، كما أن لها أوعيتها وأشكالها ووسائلها.

فالتنمية في حقيقتها عملية حضارية، لكونها تشمل مختلف أوجه النشاط في المجتمع، بما يحقق رفاهية الإنسان، ويحفظ كرامته، حيث لا قيمة للرفاهية المادية، مع فقدان الكرامة، وهي أولا وقبل كل شيء، بناء للإنسان، وتحرير له، وتطوير لكفاءاته، وإطلاق لقدراته، كما أنها اكتشاف لموارد المجتمع، وطاقاته المذخورة فيه، [ ص: 13 ] وحسن توظيفها، وتسخيرها، وادخارها، في ضوء استراتيجية، ورؤية علمية للمستقبل، أو لعالم الغد، ويبقى الإنسان، هـو غاية التنمية ووسيلتها في الوقت نفسه، وتبقى التنمية في المفهوم الإسلامي، هـي التنمية الثقافية بالمفهوم الشامل للثقافة، التي تشكل الإنسان، وفق قيم الله.. الإنسان الذي يحقق عبوديته، ويؤدي وظيفته، في القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، والعمران البشري.

ذلك أن التخلف في المجال الاقتصادي المادي، لا يمكن أن يوجد في مجتمع بمفرده، متعايشا مع تقدم في المجال السياسي، أو الثقافي، أو الاجتماعي، وإنما يأتي التخلف الاقتصادي ثمرة لتخلف سياسي، وثقافي، واجتماعي.. فكل جانب من هـذه الجوانب، يمكن أن يكون مقدمة، ونتيجة لغيره، في الوقت نفسه.. والتخلف في واحد من هـذه الجوانب، مؤشر خلل وإصابة، وفساد في الجوانب الأخرى، حتى ولو كانت الصورة الظاهرة على غير الحقيقة المستورة.

لذلك نقول: إن قضية التخلف الاقتصادي أو التنمية، لا يجوز أن تفهم إلا ضمن إطار اجتماعي، وثقافي، ونفسي، وعقدي، وأن الظن أو التوهم أن مجرد استيراد، أو تغيير الهياكل، أو الأشكال الاقتصادية، أو الاستدانة والاستقراض، للوصول بالمجتمع إلى مرحلة الرفاه، والترف، والاستهلاك، هـو تشويه لحقيقة التنمية، وقد يكون سببا لتكريس التخلف، كما هـو الحال في معظم بلاد العالم الإسلامي. [ ص: 14 ]

وبالإمكان القول أيضا: إن العالم الإسلامي سوف يستمر في حالة المعاناة التي هـو عليها، ما لم يستطع استلهام قيمه المعصومة في الكتاب والسنة، واستصحاب تجاربه التاريخية في الركود والنهوض، وامتلاك القدرة، من خلال ذلك كله، على إبداع برامج، وأوعية، لحركة الأمة المسلمة، في إطار التنمية الشاملة، خاصة بعد أن أخفقت محاولات التحديث والإنقاذ المستوردة من الخارج، والتي ما زادت الأمة إلا تخلفا وارتكاسا، يستوي في ذلك، بلاد العالم الإسلامي، ذات الوفرة السكانية، والندرة المالية، التي تتوفر فيها الطاقات، وكثافة اليد العاملة، أو البلاد ذات الوفرة المالية، والندرة السكانية، حيث إن النهوض بقي شكليا، لأنه تم في نطاق أشياء الإنسان، وأدواته الاستهلاكية، على حساب الإنسان نفسه، والارتقاء به، كهدف نهائي للتنمية، ووسيلة فاعلة فيها.

وحتى في مستوى تنمية أشياء الإنسان، وأدواته الاستهلاكية، اقتصر الأمر على الاستيراد، واستمر العجز عن الاستنبات، لغياب بناء الإنسان، لتستمر من ثم حالة التحكم والارتهان، ولا شك عندنا، أن من مقتضيات ولوازم استمرار حالة الارتهان، والتحكم بالعالم الإسلامي، إيجاد المناخات، وخلق المشكلات، التي توفر ذلك، وتبقي عليه، حيث تستمر إشاعة حالة القلق، والاستبداد السياسي، وانعدام الأمن والحرية، التي تعتبر من أول شروط النهوض، [ ص: 15 ] وتوفير مناخات التنمية، على مختلف الأصعدة.

هذه الحالة من القلق والخوف، كانت ولا تزال تدفع دائما الطاقات، والعقول، والأموال، التي تعتبر العناصر الأساسية في عملية التنمية والنهوض، إلى الهجرة من مواطنها، وإذا لم تستطع الهجرة إلى الخارج، نجدها تمارس عملية الهجرة، والتخفي في مواطنها.

وقد لا نكون بحاجة إلى تقديم إحصائية عن الأموال، والعقول، والسواعد المهاجرة من بعض بلاد العالم الإسلامي بسبب الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والقهر الثقافي، والتي لو أمكننا الاحتفاظ ببعضها، لكانت سبيلا إلى تنمية العالم الإسلامي كله، بعيدا عن القروض، واستيراد الخبرات، واستمرار الاستنزاف، وتكريس التخلف لأمتنا.

ومحاولات الاحتواء، والارتهان، والاستلاب هـذه، قد تكون أمرا طبيعيا في معركة الصراع الحضاري، أو الحوار الحضاري على حد سواء، لكن ليس من الطبيعي ألا تدرك النخب الحاكمة، ومؤسسات العمل الثقافي والسياسي ذلك، وتضع الوسائل المناسبة، والكيفيات الملائمة للتعامل معه، وتخليص العالم الإسلامي من واقعه البئيس.

وإذا كان لنا عذر في الماضي، حيث استنفدت جهودنا كلها محاولات مواجهة الاستعمار، والبعث والإحياء الإسلامي للأمة، وإعادة الانتماء للإسلام، [ ص: 16 ] والالتزام بقيمه، وأحكامه، بما يمكن أن تقتضيه فترة إنهاء التبعية واسترداد الذات، فليس لنا اليوم عذر، وبعد أن تحقق هـذا بأقدار كبيرة، ألا تبدأ في عالمنا الإسلامي مرحلة إعادة بناء الذات، بعد استردادها، ووضع البرامج والخطط التنموية، من خلال القيم الهادية الواقية، والاعتبار بالتجارب الماضية.. ذلك أن القيم في الكتاب والسنة، لا تخرج عن كونها مؤشرات كبرى، ومنطلقات أساسية، ومراكز رؤية، تمنح الإمكان الحضاري، لكنها لا تغني أبدا عن إبداع البرامج، ورسم الخطط، ووضع الاستراتيجيات المنبثقة في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، والمقاصد الهادفة، وحسن توظيف فوائض الطاقات الموفورة، حيث لا يزال الخطاب الإسلامي في معظمه اليوم، يتوجه صوب تأكيد القيم، وما يجب أن يكون عليه المسلمون، دون إعطاء القدر الكافي، لفهم ما هـو كائن، من واقع التخلف، ومن ثم إبداع أوعية، وكيفيات، وبرامج، الخروج من الواقع.

وفي إطار العملية التنموية، وتحقيق التكافل الاجتماعي، لا شك أن القيم في الكتاب والسنة، قد وضعت الأسس الكاملة، ورسمت المسارات، وغرست الأصول النفسية، وحددت الموارد المالية، ووضعت التشريعات الملزمة، وأقامت الحراسات الواقية من السقوط والنكوص، أو التوقف الاجتماعي، حيث لم يقتصر التكافل الاجتماعي، [ ص: 17 ] والتنمية في الإسلام، على الجانب المادي، كما هـو الحال في الضمان الاجتماعي في الدول الحديثة، وإنما جاءت القيم والتشريعات التكافلية شاملة لجميع جوانب الحياة، بما في ذلك الجانب المادي، وأكثر من ذلك، حيث جعلت تكامل الفرد، وتكافله مع نفسه، وتزكيتها، ووعيه لذاته، هـو الأساس في عملية التنمية والتكافل الاجتماعي. فالإنسان غير المتكافل مع نفسه (غير السوي) ، يصعب عليه أن ينظر للآخرين نظرة سوية، ويمتلك القدرة على التكافل معهم، بل لقد تجاوز الأمر في التصور الإسلامي إلى مرحلة أرقى من ذلك، حيث جعل الإسلام نجاة الفرد، مرهونة إلى حد بعيد بتنجية الآخرين، وربط كمال الإيمان بحب الآخرين، وبذلك أقام بناء الأصول النفسية للعملية التكافلية والتنموية على:

· الأخوة : قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (رواه البخاري ) .

· والرحمة : وهي الغاية التي من أجلها كانت النبوة، يقول تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) (رواه الترمذي ) ، ووصف مجتمع المسلمين [ ص: 18 ] بقوله تعالى: ( رحماء بينهم ) [الفتح:29]، والرحمة عاطفة قلبية، تدفع الإنسان المسلم إلى حماية الآخرين والتكافل، وتقديم المساعدة والرعاية لكل مخلوق، حتى الحيوان كان له نصيب من الرحمة، وتخفيف المعاناة، والرعاية المادية، وذلك بوقف المال للنفقة عليه، استجابة للندب الشرعي: ( إن لكم في كل كبد رطبة أجر ) [متفق عليه].

· والإيثار: وهي مرتبة متقدمة جدا في العملية التكافلية، حيث لم يعد يقتصر الأمر على الإحساس بحق الآخر، والحب له كما تحب لنفسك، وإنما تتجاوز إلى مرحلة أرقى، بحيث تقدمه على نفسك، وتخصه بما هـو لك، قال تعالى: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [الحشر:9].

· العفو: وهو المسامحة، والتجاوز النفسي والمادي، مع الآخر، مع القدرة على تحصيل الحق منه، قال تعالى: ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [البقرة:237].

· والعدل: وهو أن تعطي الناس كامل حقوقهم، ولا تظلمهم، قال تعالى: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى ) [المائدة:8]. [ ص: 19 ]

· والإحسان: وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم، بل الإحسان إليهم في التعامل، والتنازل لهم عن بعض حقك، وهو مرحلة فوق مرحلة العدل، قال تعالى: ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].

· والتقوى، وخلاصتها : أن لا يفتقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك.. وهذا الالتزام، هـو الذي يحقق الوقاية من السقوط في المعاصي الفكرية، والأثرة النفسية والمالية.. والتقوى هـي خير الزاد، وجماع الأمر كله، والعلامة المميزة للمجتمع الإسلامي المتكافل.. مجتمع المتقين، قال تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. واتقون يا أولي الألباب ) [البقرة:197].

( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث. فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) [المائدة:100].

وهكذا نرى أن القيم في الكتاب والسنة، أوجدت النسيج الاجتماعي، والمناخ المطلوب لعملية التكافل والتنمية، الأمر الذي يمكن من إبداع البرامج التي يخف الناس إلى القيام بها، لأن التعامل معها، والإيمان بها، وإن لم يكن مقدسا، - كاجتهادات بشرية - فإنه يرتكز إلى القيم المقدسة. [ ص: 20 ]

ولم يقتصر الإسلام على بناء الأصول النفسية، وإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي للتنمية، والتكافل، والتدريب عليها، على المستوى التربوي فقط، وإنما ضمن تحقيق ذلك بتشريع موارد مالية ملزمة، كالزكاة ، والوصية ، والميراث، والوقف ، والنذور ، والكفارات ، والصدقات ، وزكاة الفطر ، والنفقات الواجبة، وغير ذلك من الموارد المالية التكافلية، وضمن حراسة ذلك واستمراره، بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تشكل الرقابة الدائمة، والحراسة المستمرة، كما أسلفنا.

ولا يتسع المجال لوقفات عند كل مورد من هـذه التشريعات التكافلية، وبيان أثره في عملية التنمية، وإنما هـي إشارات سريعة تعين على رؤية الإطار التشريعي للتكافل الاجتماعي، بشكل عام.

ولم يقتصر الأمر في أوقات الشدائد والأزمات، على هـذه الموارد، وإنما يتجاوزها ليصل إلى مرحلة تحريم الادخار، تلك المرحلة التي لا يقتصر فيها واجب المسلم على دفع الزكاة التي هـي حق المال، ودليل جواز الادخار، ولا يقتصر أيضا، على بعض الواجبات المالية الطارئة، التي ترتب على المال حقا سوى الزكاة، وإنما تتجاوز إلى تحريم الادخار، وليس تحريم الاحتكار فقط، بل واعتباره من الكنز الذي تكوى به الجباه والجنوب. [ ص: 21 ]

وما أظن أن أشد المذاهب الاقتصادية تطرفا، وصلت إلى مرحلة تحريم الادخار، حتى في حالات الشدة، واقتصاد الحرب، كما يقولون. ولا بد أن نذكر هـنا أن التشريعات المالية، التي تحقق الموارد التكافلية، مبنية على قناعة شخصية، وإيمان وعقيدة، وأصول نفسية، كما أسلفنا، بحيث يسعى الفرد المسلم لأدائها من ذاته، وبدافع من الوازع الداخلي، ويطمئن إلى ثواب فعله، وأنه دين، يتقرب به إلى الله. ومن هـنا فشلت سائر المصادرات، ومحاولات تأميم المدخرات، والفوائض، التي فرضتها بعض الحكومات في العالم الإسلامي، تحت عناوين الاشتراكية ، وغيرها لأكثر من ربع قرن، أخفقت في مجالات التنمية ، وكانت سببا في تكريس التخلف، لعدم إيمان الإنسان بها، ووجود الأثرة والتشريعات المتعسفة في تطبيقها.

إن التكافل الاجتماعي، أو التنمية بالمفهوم الشامل في الإسلام، تقتضي في بعض الظروف والشدائد، تقديم المدخر، من ظهر، وزاد، وجهد، وطاقة، إلى الآخرين، حتى إننا نرى فهم الصحابة الذي ينقله لنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ) ، (رواه مسلم ) ، أي: لا حق في الزائد عن الحاجة، حتى لقد وصل الأمر [ ص: 22 ] ببعض الصحابة - أبو ذر الغفاري رضوان الله عليه - إلى القول: " الكنز هـو: الزائد عن حاجة يومك " .

أما الكنز الذي هـو الاحتفاظ بالمال، وتعطيل وظيفته الاجتماعية، ومنعه من التداول، فهو من الأمور المحرمة، في كل الأحوال والأوقات، في الشدة والرخاء على حد سواء.

وقد تكون المشكلة من بعض الوجوه، أن العقل المسلم المعاصر، يعاني من حالة العجز، في التعامل مع موارد التكافل المالية، حيث لا يبصر من خلال تلك المعاناة التي يعيشها، ومناخ التخلف الذي يحيط به، إلا وضع تلك الموارد في المواقع الاستهلاكية، دون امتلاك القدرة على إبصار المواقع الإنتاجية، التي يمكن أن تكون أوعية للاستثمار وتنمية هـذه الموارد، بحيث تتحول هـذه الفوائض من الاقتصار على معالجة آثار المشكلة، وترميمها، بتقديم المساعدات الاستهلاكية؛ إلى معالجة أسباب المشكلة، والقضاء عليها، بجعل المساعدات إنتاجية، بحيث تنتهي المشكلة تماما.

ولعل من الأسباب أيضا، غياب الحس بأهمية وأبعاد الفروض الكفائية ، ودورها في عملية التنمية ، والتكافل الاجتماعي، وانكماش فكرة الاحتساب في العمل، والشعور بالمسئولية تجاه الآخرين، وتقديم ذلك في الأهمية على الفروض العينية ، لأن تحقيق الفروض الكفائية ، [ ص: 23 ] التي هـي في النهاية فروض تكافلية تنموية، تصل بالأمة إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، أو التنمية الذاتية، وحسن التوظيف لطاقاتها، وفوائضها المالية، أمر يخص الأمة كلها، ويتعلق بكيانها ومصلحتها، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، شرعا وعقلا. لكن المشكلة في تقطيع أوصال الأمة الواحدة، ونمو الحس الفردي، الأمر الذي أدى إلى عدم إبصار إلا الفروض الفردية العينية، لغياب الدولة المسلمة، وغياب المؤسسات البديلة عنها.

وقد يكون من المداخل المغلوطة، توهم بعض الجماعات أو العاملين للإسلام، أن تحقيق التكافل الاجتماعي، والامتداد به، هـو من وظائف الدولة فقط، وأن أية مساهمة في هـذا المجال، تشكل خدمة، ودعما، وتأييدا، وتقوية، لمؤسسات قد لا تلتزم بتطبيق أحكام الشريعة، الأمر الذي أدى إلى نكوص وقعود كثير من العاملين عن وظائف الاحتساب ، والقيام بالفروض الكفائية ، والتدريب عليها، وتقديم البرهان للأمة، على أن الإسلام هـو القادر وحده على تقديم الحلول لمشكلاتها، ولا يخفى ما للقيام بالفروض الكفائية من أهمية في مجال الدعوة للإسلام، والتحول إليه، إضافة إلى أنه ليس من المسلم به، أن تحقيق التكافل هـو واجب الدولة وحدها، وأن الدول التي قد لا تلتزم بتطبيق الشريعة، لا يخرج المجتمع فيها، عن أن يكون مجتمع مسلمين، ولا بد أن تحكمه وتسوده حقوق الأخوة الإسلامية، [ ص: 24 ] في تحقيق التكافل الاجتماعي.

والكتاب الذي نقدمه اليوم، للأخ الدكتور يوسف إبراهيم يوسف ، يمكن اعتباره مساهمة متقدمة، تشكل نقلة نوعية مقترحة للمؤسسات الإسلامية، وللعقل المسلم بشكل أخص، تمكنه من إبصار الكثير من الملامح والآفاق الغائبة، عن العمليات التنموية في العالم الإسلامي، وتلفته إلى الطاقات الكبيرة الفائضة، المذخورة والمعطلة، بسبب إصابات التخلف، التي أورثته العجز، عن حسن توظيف تلك الطاقات، ذلك أن أية محاولات للنهوض بعيدا عن حسن استثمار هـذه الطاقات، وتوظيفها، من خلال إعادة إحياء مفهوم فروض الكفاية، التي هـي في الحقيقة واجبات اجتماعية تكافلية، تحقق الاكتفاء الذاتي، سوف تبوء بالفشل.

ولعل من أبرز ميزات الكتاب، أنه لم يقتصر على مخاطبة المسلمين بما يجب أن يكون، شأن الكثير من مواصفات الخطاب الإسلامي اليوم، وإنما تجاوز ذلك، إلى اقتراح نماذج للأوعية، والكيفيات، والتطبيقات، التي يمكن أن تتحرك من خلالها هـذه الطاقات الفائضة، في ضوء الواقع الذي عليه الناس، وبذلك جاء الكتاب خطوة رائدة، للجمع بين الفقه للحكم الشرعي، الذي يعتبر نقطة الارتكاز الأساسية للمعاملات، وما يمنحه الفقه الاقتصادي، أو علم الاقتصاد، [ ص: 25 ] من إبداع وابتكار البرامج والأوعية العملية، لحسن استثمار وتوظيف فوائض الطاقات، والتخطيط لتنمية العالم الإسلامي.

وما لم تدرك المؤسسات، والتنظيمات الإسلامية، والعاملون للإسلام، أهمية فروض الكفاية ، وتوفير التخصصات المطلوبة، التي تمكن من إبداع البرامج، وتقديم النماذج الإسلامية العملية. لتنزيل القيم الإسلامية في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوكه به، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والتحول من مرحلة الحماس، إلى مرحلة الاختصاص والبناء، فسوف تستمر المراوحة في الموقع ذاته، مهما كانت أمنياتنا كبيرة، وآمالنا عريضة، والله المستعان. [ ص: 26 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية