الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن داود بن علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهري ابن [ ص: 758 ] الظاهري كان عالما بارعا أديبا شاعرا فقيها ماهرا ، وهو مصنف كتاب " الزهرة " اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه وما كان يسلكه يختاره من الطريق ويرتضيه ، وكان أبوه يحبه ويقربه ويدنيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال رويم بن محمد : كنا يوما عند داود إذ دخل ابنه محمد باكيا ، فقال : ما لك ؟ فقال : إن الصبيان يلقبونني عصفور الشوك ، فضحك أبوه فاشتد غضب ولده ، وقال : أنت أضر علي منهم ، فضمه أبوه إليه ، وقال : لا إله إلا الله ما الألقاب إلا من السماء ما أنت يا بني إلا عصفور الشوك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما توفي أبوه أجلس ابنه محمد هذا في مكانه في الحلقة فاستصغره الناس عن ذلك ، فسأله سائل يوما عن حد السكر فقال : إذا عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم . فاستحسن ذلك منه ، وعظم في أعين الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي في " المنتظم " : وقد ابتلي بحب صبي اسمه محمد بن جامع ويقال محمد بن زخرف ، فاستعمل العفاف والدين في حبه ، ولم يزل ذلك دأبه فيه حتى كان سبب وفاته في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : فدخل في الحديث المروي عن ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا عنه : [ ص: 759 ] " من عشق فكتم فعف فمات مات شهيدا " وقد قيل عنه إنه كان يبيح العشق بشرط العفاف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى هو عن نفسه أنه لم يزل يتعشق منذ كان في الكتاب وأنه صنف كتاب " الزهرة " في ذلك من صغره ، وربما وقف أبوه داود على بعض ذلك ، وكان يتناظر هو وأبو العباس بن سريج كثيرا بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف فيعجب الناس من مناظرتهما وحسنها . وقد قال له ابن سريج يوما في مناظرته : أنت بكتاب " الزهرة " أشهر منك بهذا . فقال له : تعيرني بكتاب " الزهرة " وأنت لا تحسن تستتم قراءته وهو كتاب جمعناه هزلا فاجمع أنت مثله جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي أبو عمر محمد بن يوسف : كنت يوما أنا وأبو بكر بن داود راكبين : فإذا جارية تغني بشيء من شعره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أشكو عليل فؤاد أنت متلفه شكوى عليل إلى إلف يعلله     سقمي تزيد على الأيام كثرته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنت في عظم ما ألقى تقلله     الله حرم قتلي في الهوى أسفا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنت يا قاتلي ظلما تحلله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال أبو بكر محمد بن داود : كيف السبيل إلى استرجاع هذا ؟ فقلت : [ ص: 760 ] هيهات سارت به الركبان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كانت وفاة محمد بن داود رحمه الله تعالى في رمضان من هذه السنة وجلس ابن سريج لعزاه وقال : ما آسى إلا على التراب الذي أكل لسان محمد بن داود رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن عثمان بن أبي شيبة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو جعفر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حدث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وخلق وعنه ابن صاعد والخلدي والباغندي وغيرهم وله كتاب في التاريخ وغيره من المصنفات وقد وثقه صالح بن محمد جزرة وغيره وكذبه عبد الله ابن الإمام أحمد فقال : هو كذاب بين الأمر . وتعجب ممن يروي عنه ، وكانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسين بن مصعب من بيت الإمارة والحشمة ، باشر نيابة العراق مدة ثم خراسان ثم ظفر به يعقوب بن الليث في سنة ثمان وخمسين فأسره ، وبقي معه يطوف به في الآفاق أربع سنين ثم نجا في بعض الوقعات بنفسه ، ولم يزل مقيما ببغداد إلى أن توفي في هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 761 ] موسى بن إسحاق بن موسى بن عبد الله أبو بكر الأنصارى الخطمى مولده سنة عشر ومائتين سمع أباه وأحمد بن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم وحدث عنه الناس وهو شاب ، وقرءوا عليه القرآن وكان ينتحل مذهب الشافعي وولي قضاء الري والأهواز ، وكان ثقة فاضلا نبيلا عفيفا فصيحا كثير الحديث ، توفي في المحرم من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد والد القاضي أبي عمر ، محمد بن يوسف ، قاتل الحلاج وكان يوسف بن يعقوب هذا من أكابر القضاة وأعيان العلماء ، ولد سنة ثمان ومائتين وسمع سليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسددا ، وغيرهم . وكان ثقة ، وقد ولي قضاء البصرة وواسط والجانب الشرقي من بغداد وكان ثقة نزها عفيفا شديد الحرمة جاءه يوما بعض خدم الخليفة المعتضد فرفع في المجلس ، فأمره حاجب القاضي أن يساوي خصمه ، فامتنع إدلالا بجاهه عنده فنهره القاضي وقال : ائتوني بدلال النخس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة ، وجاء حاجب القاضي ، فأخذه بيده وأجلسه مع خصمه ، فلما انقضت الحكومة [ ص: 762 ] رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه وأخبره بما قال القاضي فقال : والله لو باعك لأجزت بيعه ولما استرجعتك أبدا ، فليس خصوصيتك عندي تزيل مرتبة الحكم ، فإنه عمود السلطان وقوام الأديان . كانت وفاته في رمضان من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية