الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا احتمل كون الولد من الزوج ، ومن الواطئ بالشبهة ، عرض بعد الوضع على القائف ، فإن ألحقه بالزوج أو بالواطئ ، فحكمه ما ذكرنا فيما إذا اختص الاحتمال به ، فإن لم يكن قائف أو أشكل عليه ، أو ألحقه بهما ، أو نفاه عنهما ، أو مات الولد وتعذر عرضه ، انقضت عدة أحدهما بوضعه ، لأنه من أحدهما ، ثم تعتد بعد الوضع للآخر بثلاثة أقراء . قال الروياني : وقول الشافعي رحمه الله تعالى : فإن لم يكن قائف ، ليس المراد به أن لا يوجد في الدنيا ، بل المراد أن لا يوجد في موضع الولد وما يقرب منه ، وهو المسافة التي تقطع في أقل من يوم وليلة . وسواء في وجوب العرض على القائف ، ادعياه جميعا ، أو ادعاه أحدهما فقط .

                                                                                                                                                                        وقيل : إذا ادعاه أحدهما فقط ، اختص به ، كالأموال ، والصحيح الأول ، لحق الولد وحق الشرع في النسب . قال المتولي : إن كان الطلاق بائنا ، عرض على القائف كما ذكرنا . وإن كان رجعيا ، بني على أن الرجعة هل هي فراش ، أم لا ؟ إن قلنا : لا ، عرض أيضا ، وإن قلنا : فراش ، وأن السنين الأربع في حقها تعتبر من انقضاء العدة ، فالولد ملحق ( بالزوج ) ولا يعرض على القائف .

                                                                                                                                                                        ثم في هذا الفرع مسألتان .

                                                                                                                                                                        إحداهما : إذا رجع الزوج في مدة الحمل ، بني على ما إذا تأخرت عدة الزوج [ ص: 390 ] لإحبال الواطئ ، هل له الرجعة في مدة الحمل ؟ إن قلنا : نعم ، صحت رجعته ، وهو الأصح ، وإلا فلا . فلو بان بعد الوضع أن الحمل منه بإلحاق القائف ، فهل يحكم الآن بأن الرجعة وقعت صحيحة ؟ وجهان . أصحهما : نعم . ولو راجع بعد الوضع ، لم يحكم بصحة الرجعة أيضا ، لاحتمال كون الحمل منه ، وأن عدته انقضت بوضعه . فلو بان بإلحاق القائف أن الحمل من وطء الشبهة ، ففي الحكم الآن بصحة الرجعة الوجهان ، هذا إذا راجع في القدر المتيقن بعد الوضع أنه من الأقراء دون ما أوجبناه احتياطا .

                                                                                                                                                                        بيانه : وطئها الأجنبي بعد مضي قرء من وقت الطلاق ، فالقدر الذي يتيقن لزومه بعد الوضع قرءان ، وإنما نوجب القرء الثالث احتياطا ، لاحتمال كون الحمل من الزوج . ولو راجع مرتين ، مرة قبل الوضع ، ومرة بعده في القرءين ، ففي صحة رجعته وجهان . أصحهما : الصحة ، وبه قال القفال ، لوجود رجعة في عدته يقينا ، والثاني : المنع ، للتردد . ولو جدد النكاح ، إذا كان الطلاق بائنا ، نظر ، إن نكحها مرة واحدة قبل الوضع أو بعده ، لم يحكم بصحته ، لاحتمال كونه في عدة الشبهة . فإن بان بعد ذلك كون العدة كانت منه بإلحاق القائف ، قال المتولي : فهو على الخلاف في الرجعة . قال : وليس هو من وقف العقود ، وإنما هو وقف على ظهور أمر كان عند العقد .

                                                                                                                                                                        وإن نكحها مرتين قبل الوضع وبعده ، ففي صحته وجهان ، كالرجعة . قال الإمام : الأصح هنا المنع ، لأن الرجعة تحتمل ما لا يحتمله النكاح ، ولهذا تصح في الإحرام ، والوجهان مفرعان على صحة تجديد الزوج في عدته ، مع أن في ذمتها عدة شبهة ، وإلا فلا يصح قطعا ، لاحتمال تأخر عدة الشبهة ، فلا تصح المرة الأولى للعدة التي في ذمتها ، ولا الثانية ، لكونها في عدة شبهة . فلو نكحها الواطئ بشبهة قبل الوضع أو بعده في القرءين ، لم يصح ، لاحتمال كونها في عدة الزوج . ولو نكحها بعد الوضع في القرءين ، ثم بان بالقائف أن الحمل من الزوج ، ففي [ ص: 391 ] تبين الصحة الخلاف السابق . ولو نكحها في القرء الثالث ، صح قطعا ، لأنها في عدته إن كان الحمل من الزوج ، وإلا فغير معتدة .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : سنذكر إن شاء الله تعالى أن الرجعية تستحق النفقة في العدة ، وأن البائن لا تستحقها إلا إذا كانت حاملا ، ونذكر قولين في أن تلك النفقة للحمل ، أم للحامل ؟ وقولين في أن تلك النفقة تصرف إليها يوما بيوم ، أم يصرف الجميع إليها عند الوضع ؟ وأن المعتدة عن وطء شبهة لا نفقة لها على الواطئ إذا قلنا : النفقة للحامل .

                                                                                                                                                                        إذا عرفت هذه الجمل ، فإن قلنا : النفقة للحامل وهو الأظهر ، لم تطالب المرأة الزوج ولا الواطئ بالنفقة مدة الحمل المحتمل . فإذا وضعت ، نظر ، إن ألحقه القائف بالزوج ، طالبته بنفقة مدة الحمل الماضية ، وهذا إذا لم تصر فراشا للثاني ، بأن لم يوجد إلا وطء شبهة ، وينبغي أن يستثنى زمن اجتماعها بالثاني ، فإن صارت فراشا له ، بأن نكحها جاهلا وبقيت في فراشه حتى وضعت ، فلا نفقة لها على الزوج ، لكونها ناشزة بالنكاح ، فإن فرق الحاكم بينهما قبل الوضع ، طالبته بالنفقة من يوم التفريق إلى الوضع ، ثم لا نفقة لها على الواطئ في عدتها عنه بالأقراء .

                                                                                                                                                                        وإن ألحقه القائف بالواطئ ، لم يلزم واحدا منهما نفقة مدة الحمل ، ويلزم الزوج نفقة مدة القرءين بعد الوضع إذا كان الطلاق رجعيا ، ويلزمه أيضا نفقة مدة النفاس على الأصح ، كما أن له الرجعة فيها ، ولا يمنع ذلك كونه لا يحسب من العدة كمدة الحيض ، وإن لم نلحقه بواحد منهما ، أو لم يكن قائف ، فلا نفقة على الواطئ ، ولا على الزوج وإن كان الطلاق بائنا ، لأنا لا نعلم حال الحمل ، ولا نفقة إذا لم يكن حمل . وإن كان رجعيا ، فلا نفقة لمدة كونها فراشا ، ولها عليه الأقل من نفقتها من يوم التفريق إلى الوضع ، ونفقتها في القدر الذي تكمل به عدة الطلاق بعد الوضع وهو قرءان في المثال السابق .

                                                                                                                                                                        هذا إذا قلنا : النفقة للحامل ، فإن قلنا : إنها للحمل ، فعلى أحدهما نفقة مدة الحمل بيقين ، [ ص: 392 ] فإذا أشكل الحال ، أنفقا عليه بالسوية ، فإن قلنا : نصرف الجميع إليها بعد الوضع ، أخذت من كل واحد منهما نصف نفقتهما ، هكذا رتب ابن الصباغ والروياني في " جمع الجوامع " ، وهو المذهب . ومنهم من أطلق أنها لا تطالب واحدا منهما في مدة الحمل ، ولم يفرق هؤلاء بين قولنا : النفقة للحمل أو للحامل ، فعلى هذا ، إذا وضعت فألحقه القائف بالواطئ ، قال الإمام والغزالي : لا تطالب بالنفقة الماضية ، بناء على أن نفقة القريب تسقط بمضي الزمان ، والذي ذكره البغوي وجماعة ، أنه يطالب بتلك النفقة ، وقالوا : هذه النفقة تصير دينا في الذمة وليست كنفقة الأقارب .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : ولم يقل أحد من الأصحاب ، أنه إذا ألحقه القائف بالزوج ، لا يطالب بالنفقة الماضية ، تفريعا على أنها للحمل ، وأنها تسقط بمضي الزمان ، قال : والقياس يقتضي المصير إليه . أما نفقة الولد بعد الوضع وحضانته ، فعلى ما ألحقه القائف به منهما ، فإن لم يكن قائف ، أو أشكل عليه ، فهي عليهما مناصفة إلى أن يوجد القائف ، أو يبلغ الصبي ، فينتسب إلى أحدهما . وقيل : لا يطالبان بالنفقة في مدة الإشكال ، وهو ضعيف . ثم إذا أنفقا ( عليه ) ، ثم لحق الولد بأحدهما بإلحاق القائف ، أو بانتسابه ، رجع الآخر عليه بما أنفق بشرطين ، أحدهما : أن يكون الإنفاق بإذن الحاكم ، وإلا فهو متبرع . والثاني : أن لا يكون مدعيا للولد ، فإن كان يدعيه ، فلا رجوع لأنه أنفق على ولده بزعمه .

                                                                                                                                                                        ولو مات الولد في زمن الإشكال ، فكفنه عليهما ، وللأم ثلث ماله ، ويوقف الباقي بين الزوج والواطئ حتى يصطلحا . فإن كان لها ولدان آخران ، أو كان لكل واحد من الزوج والواطئ ولدان ، فلها السدس . فإن كان لأحدهما ولدان دون الآخر ، فهل لها الثلث للشك في كونهما أخوين للميت ، أم السدس لأنه اليقين ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 393 ] قلت : الأصح أو الصحيح أنه السدس . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو أوصى إنسان لهذا الحمل بشيء ، فانفصل حيا ، ثم مات ، فإن مات بعد قبول الزوج والواطئ الوصية ، فالوصية مستقرة ، لأن أحدهما أبوه ، والمال لورثته كما ذكرنا ، وإن مات قبل أن يقبلا ، فحق القبول للورثة .

                                                                                                                                                                        ولو سمى الموصي أحدهما ، فقال : أوصيت لحمل فلان هذا ، فإن ألحقه القائف بغير المسمى ، بطلت الوصية ، وإن ألحقه به ، صحت ، وإن نفاه باللعان ، ففي بطلانها وجهان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما ذكرناه من كون العدتين من شخصين ، لا يتداخلان إذا كان في شخصين محترمين . فأما إذا طلق حربي زوجته ، فوطئها في عدته حربي آخر بشبهة ، أو نكحها ووطئها ، ثم أسلمت مع الثاني ، أو دخلا بأمان ، وترافعا إلينا ، فحكي عن النص أنه لا يجمع عليها عدتان ، بل يكفيها واحدة من يوم وطئها الثاني ) . وللأصحاب طرق . أحدها : الاكتفاء بعدة عملا بهذا النص ، لأن حقوقهم ضعيفة ، وماؤهم غير محترم ، فيراعى أصل العدة ، ويجعل جميعهم كشخص . والثاني : القطع بأنه لا بد من عدتين كالمسلمين ، ورد هذا النص . والثالث : على قولين .

                                                                                                                                                                        ونقل السرخسي والروياني ، أن بعضهم خرج من هذا النص ، فيما إذا كانت العدتان لمسلمين ، وجعل الصورتين على قولين نقلا وتخريجا ، وهذا غريب ضعيف جدا . فإذا قلنا في الكافرين : يكفي عدة ، فهل نقول : هي للوطء الثاني فقط وتسقط بقية عدة الأول لضعف حقوق الحربي وبطلانها بالاستيلاء عليه ، أو على زوجته ، أم نقول : تدخل بقية العدة الأولى في الثانية ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أرجحهما الأول . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 394 ] قال المتولي : ولو أسلمت المرأة ، ولم يسلم الثاني ، وجب أن تكمل العدة الأولى ، ثم تعتد عن الثاني قطعا ، لأن العدة الثانية ليست هنا أقوى حتى تسقط بقية الأولى أو تدخل فيها . قال : ولو كان الأول طلقها رجعية ، وأسلمت مع الثاني ، ثم أسلم الأول ، فله الرجعة في بقية عدته ، إن قلنا بدخولها في العدة الثانية . وإن قلنا بسقوطها ، فلا . قال : ولو أراد الثاني أن ينكحها ، فله ذلك إن قلنا : بسقوط بقية العدة الأولى ، لأنها في عدته فقط ، وإن قلنا بدخولها في الثانية ، فلا ، حتى تنقضي تلك البقية ، قال : ولو كانت حاملا من الأول ، لم تكفها عدة واحدة ، بل تستأنف بعد الوضع عدة الثاني . وإن أحبلها الثاني ، فإن قلنا : تسقط بقية الأولى ، فكذا هنا ، ويكفيها وضع الحمل . وإن قلنا بالتداخل ، عادت بعد الوضع إلى بقية العدة الأولى ، لأن الحمل ليس من الأول ، فلا تنقضي به عدته . ولو طلق حربي زوجته ، فوطئها في العدة حربي بنكاح وطلقها حربي ، فيها الخلاف ، وفيه صور الإمام المسألة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية