الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني : في سبب الاستبراء ، وهو سببان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 427 ] السبب الأول : حصول الملك ، فمن ملك جارية بإرث أو هبة ، أو شراء أو وصية ، أو سبي ، أو عاد ملكه فيها بالرد بالعيب ، أو التحالف ، أو الإقالة ، أو خيار الرؤية ، أو الرجوع في الهبة ، لزمه استبراؤها ، سواء في الإقالة ونحوها ، ما قبل القبض وبعده ، وسواء كان الانتقال إليه ممن يتصور اشتغال الرحم بمائه أو ممن لا يتصور ، كامرأة وصبي ونحوهما ، وسواء كانت الأمة صغيرة ، أو آيسة ، أو غيرهما ، بكرا ، أو ثيبا ، وسواء استبرأها البائع قبل البيع ، أم لا . وعن ابن سريج تخريج في البكر : أنه لا يجب .

                                                                                                                                                                        وعن المزني : أنه إنما يجب استبراء الحامل والموطوءة . قال الروياني : وأنا أميل إلى هذا ، واحتج الشافعي رحمه الله بإطلاق الأحاديث في سبايا أوطاس ، مع العلم بأن فيهن الصغار ، والأبكار ، والآيسات . ولا يجب على بائع الأمة استبراؤها قبل البيع ، سواء وطئها أم لا ، لكنه يستحب إن كان وطئها ليكون على بصيرة منها . ولو أقرض جارية لمن لا تحل له ، ثم استردها قبل تصرف المقترض فيها ، لزم المقرض استبراؤها إن قلنا : إن القرض يملك بالقبض ، وإن قلنا : بالتصرف ، لم يلزمه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كاتب جاريته ، ثم فسخت الكتابة ، أو عجزها السيد ، لزمها الاستبراء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو حرمت على السيد بصلاة أو صوم ، أو اعتكاف أو رهن ، أو حيض أو نفاس ، ثم زالت هذه الأشياء ، حلت بغير استبراء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ارتدت أمته ثم أسلمت ، لزمه استبراؤها على الأصح ، لأنه زال ملك الاستمتاع ثم عاد . قال البغوي : الوجهان مبنيان على الوجهين فيما لو اشترى مرتدة ثم أسلمت ، هل يحسب حيضها في زمن الردة من الاستبراء ؟ فإن قلنا : يحسب ، [ ص: 428 ] لم يجب الاستبراء ، وإلا وجب . ولو ارتد السيد ثم أسلم ، فإن قلنا : يزول ملكه بالردة ، لزمه الاستبراء قطعا ، وإلا فعلى الأصح كردة الأمة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أحرمت ثم تحللت ، فالمذهب وبه قطع الجمهور : أنه لا استبراء كما لو صامت ثم أفطرت . وقيل : وجهان كالردة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        زوج أمته ، فطلقت قبل الدخول ، فهل على السيد استبراؤها ؟ قولان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        باعها بشرط الخيار ، فعادت إليه بالفسخ في مدة الخيار ، ففي وجوب الاستبراء خلاف ، المذهب منه أنه يجب إن قلنا : يزول ملك البائع بنفس العقد ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        اشترى زوجته ، فوجهان . الأصح المنصوص ، أنه يدوم حل وطئها ، ولا يجب الاستبراء ، لكن يستحب ، أما أنه لا يجب ، فلأنه لم يتجدد حل ، ولأنه لا يؤدي إلى اختلاط ماء ، وأما استحبابه ، فلتمييز ولد النكاح عن ولد ملك اليمين ، فإنه في النكاح ينعقد مملوكا ، ثم يعتق ولا تصير به أم ولد . وفي ملك اليمين ينعقد حرا وتصير أم ولد . والثاني : يجب الاستبراء لتجدد الملك . ولو اشتراها بشرط الخيار ، فهل له وطؤها في مدة الخيار لأنها منكوحة أو مملوكة ، أم لا للتردد في حالها ؟ وجهان ، قال البغوي : المنصوص أنه لا يحل . ولو طلقها [ ص: 429 ] ثم اشتراها في العدة ، وجب الاستبراء قطعا ، لأنه ملكها وهي محرمة عليه . ولو اشترى زوجته ثم أراد تزويجها لغيره ، لم يجز إن كان دخل بها قبل الشراء إلا بعد قرءين ، لأنه إذا انفسخ النكاح وجب أن تعتد منه ، فلا تنكح غيره حتى تنقضي عدتها بقرءين . فلو مات عقب الشراء ، لم يلزمها عدة الوفاة ، بل تكمل عدة الانفساخ ، كذا ذكره ابن الحداد ، وحكى عن نصه في " الإملاء " .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        اشترى مزوجة أو معتدة عن زوج ، أو وطء شبهة ، والمشتري عالم بالحال أو جاهل ، وأجاز البيع ، فلا استبراء في الحال ، لأنها مشغولة بحق غيره . فإن طلقت قبل الدخول أو بعده ، وانقضت عدة الشبهة ، فهل يلزم للمشتري الاستبراء ؟ قولان . أظهرهما : نعم . وقد يقال : يجب الاستبراء ، ويرد الخلاف إلى أنه هل تدخل في العدة ؟ واستنبط القاضي حسين من القولين عبارتين يتخرج عليهما مسائل .

                                                                                                                                                                        إحداهما : أن الموجب للاستبراء حدوث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع .

                                                                                                                                                                        والثانية : أن الموجب حدوث حل الاستمتاع في المملوكة بملك اليمين ، فعلى العبارة الأولى : لا يجب الاستبراء عند انقضاء العدة ، لأنه لم يحدث حينئذ ملك ، وعند حدوثه لم يكن محل الاستمتاع فارغا ، وعلى الثانية : يجب . وخرج بعضهم عليهما الخلاف فيما لو اشترى مجوسية فحاضت ثم أسلمت ، هل يلزم الاستبراء بعد الإسلام ، أم يكفي ما سبق ؟ وكذا الخلاف فيما لو زوج وطلقت قبل الدخول ، هل على السيد استبراء ؟ فعلى الأولى ، لا . وعلى الثانية ، نعم . ويجري الخلاف فيما لو زوجها وطلقت بعد الدخول وانقضت عدتها ، أو وطئت بشبهة وانقضت عدتها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 430 ] وإذا قلنا : فيما إذا اشترى مزوجة وطلقت ، لا يجب الاستبراء ، فلمن يريد تعجيل الاستمتاع أن يتخذ ذلك حيلة في اندفاع الاستبراء ، فيسأل البائع أن يزوجها ثم يشتريها ، ثم يسأل الزوج أن يطلقها ، فتحل في الحال ، لكن لا يجوز تزويج الموطوءة إلا بعد الاستبراء ، فإنما يحصل الغرض إذا لم تكن موطوءة ، أو كان البائع قد استبرأها .

                                                                                                                                                                        وإذا كانت الجارية كذلك ، فلو أعتقها المشتري في الحال ، وأراد أن يزوجها البائع أو غيره ، أو يتزوجها بنفسه ، جاز على الأصح ، ذكره البغوي وغيره . فعلى هذا ، من يريد تعجيل الاستمتاع يمكنه أن يعتقها في الحال ويتزوجها ، ولا يحتاج إلى سؤال البائع أن يزوجها أولا إذا كان يسمح بفوات ماليتها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا تم ملكه على جميع جارية كانت مشتركة بينه وبين غيره ، لزمه الاستبراء ، ولو أسلم في جارية وقبضها ، فوجدها بغير الصفة المشروطة فردها ، لزم المسلم إليه الاستبراء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا كانت الجارية المشتراة محرما للمشتري ، أو اشترتها امرأة أو رجلان ، فلا معنى للاستبراء إلا فيما يرجع إلى التزويج .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ظهر بالمشتراة حمل فقال البائع : هو مني ، نظر ، إن صدقه المشتري ، فالبيع باطل باتفاقهما ، والجارية مستولدة للبائع . وإن كذبه ، نظر ، إن لم يقر البائع بوطئها عند البيع ولا قبله ، لم يقبل قوله ، كما لو قال بعد البيع : كنت أعتقته ، لكن يحلف المشتري ، أنه لا يعلم كون الحمل منه . وفي ثبوت نسبه من البائع [ ص: 431 ] خلاف ، لأنه يقطع إرث المشتري بالولاء ، وإن كان أقر بوطئها ، نظر ، إن كان استبرأها ثم باعها ، ثم ولدت لدون ستة أشهر من وقت استبراء المشتري ، فالولد لاحق بالبائع ، والجارية مستولدة له ، والبيع باطل ، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر ، لم يقبل قوله ، ولم يلحقه الولد ، لأنه لو كان ملكه ، لم يلحقه ، ثم ينظر ، إن لم يطأها المشتري ، أو وطئها وولدت لدون ستة أشهر من وقت وطئه ، فالولد مملوكه . وإن ولدته لستة أشهر فأكثر من وطئه ، فالولد لاحق بالمشتري ، والجارية مستولدة له . وإن لم يستبرئها البائع قبل البيع ، نظر ، إن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت استبراء المشتري ، أو لأكثر ولم يطأها المشتري ، فالولد للبائع ، والبيع باطل . وإن وطئها المشتري وأمكن أن يكون من هذا ، وأن يكون من ذاك ، عرض على القائف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يجب في شراء الأمة التي كان البائع يطؤها إلا استبراء واحد ، لحصول البراءة ، فلو اشتراها من شريكين وطئاها في طهر واحد ، فهل يكفي استبراء لحصول البراءة ، أم يجب استبرءان كالعدتين من شخصين ؟ وجهان . ويجريان فيما لو وطئاها وأرادا تزويجها ، فهل يكفي استبراء ، أم يجب استبراءان . ولو وطئ أجنبيان أمة كل يظنها أمته ، قال المتولي : وطء كل واحد يقتضي استبراء بقرء . وفي تداخلهما وجهان . أصحهما : المنع .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من ملك أمة ، لم يجز له وطؤها حتى ينقضي الاستبراء . وأما الاستمتاع بالقبلة واللمس والنظر بشهوة ونحوها ، فحرام إن ملكها بغير السبي ، وإن ملكها بالسبي ، فحلال على الأصح .

                                                                                                                                                                        وإذا طهرت من الحيض وتم الاستبراء ، بقي تحريم الوطء حتى تغتسل ، ويحل الاستمتاع قبل الغسل على الصحيح .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وجوب الاستبراء لا يمنع المالك من إثبات اليد على الجارية ، بل هو مؤتمن فيه [ ص: 432 ] شرعا ، لأن سبايا أوطاس لم ينزعن من أيدي أصحابهن ، وسواء كانت حسناء أم قبيحة .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        لو مضى زمن الاستبراء بعد الملك وقبل القبض ، هل يعتد به ؟ نظر ، إن ملك بالإرث ، اعتد به ، وإن ملك بالهبة ، فلا . وإن ملك بالشراء ، اعتد به على الأصح ، وفي الوصية ، لا يعتد بما قبل القبول ، ويعتد بما بعده على المذهب . ولو وقع الحمل أو الحيض في زمن خيار الشرط في الشراء ، فإن قلنا : الملك للبائع ، لم يحصل الاستبراء . وإن قلنا : للمشتري ، لم يحصل أيضا على الأصح ، لضعف الملك . وقيل : يحصل ، وقيل : يحصل في صورة الحمل دون الحيض ، لقوة الحمل .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو اشترى مجوسية أو مرتدة ، فمضت عليها حيضة ، أو ولدت ثم أسلمت ، فهل تعتد بالاستبراء في الكفر لوجود الملك ، أم يجب بعد الإسلام ليستعقب حل الاستمتاع ؟ وجهان ، أصحهما الثاني .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا اشترى العبد المأذون له جارية ، فللسيد وطؤها إن لم يكن على العبد دين ، فإن كان ، لم يجز ، لئلا يحبلها . فإن انفكت عن الديون بقضاء أو إبراء ، وقد جرى قبل الانفكاك ما يحصل به الاستبراء ، فهل يعتد به ، أم يشترط وقوع الاستبراء بعد الانفكاك ؟ وجهان كالمجوسية ، أصحهما الثاني ، وبه قطع العراقيون .

                                                                                                                                                                        ولو رهنها قبل الاستبراء ، ثم انفك الرهن ، قال في " الشامل " : يجب استبراؤها ، ولا يعتد بما جرى ، وهي مرهونة ، وغلطه الروياني .

                                                                                                                                                                        [ ص: 433 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو وطئها قبل الاستبراء ، أو استمتع بها ، وقلنا بتحريمه ، أثم ، ولا ينقطع الاستبراء ، لأن الملك لا يمنع الاحتساب ، فكذا المعاشرة بخلاف العدة .

                                                                                                                                                                        فلو أحبلها بالوطء في الحيض ، فإن انقطع الدم ، حلت له لتمام الحيضة ، وإن كانت طاهرا عند الإحبال ، لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل ، هذا لفظه في الوسيط وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية