الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                952 ص: وقد روي عنه -عليه السلام- في ذلك أيضا ما هو أولى من هذا.

                                                حدثنا علي بن معبد وأبو بشر الرقي ، قالا: ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم ، عن أم كلثوم بنت أبي بكر ، أنهما أخبرته عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنهما قالت: "أعتم النبي -عليه السلام- ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، وقال: إنه لولا أن أشق على أمتي" .

                                                ففي هذا أنه صلاها بعد مضي أكثر الليل، وأخبر أن ذلك وقت لها، فثبت بتصحيح هذه الآثار أن أول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق إلى أن يمضي الليل كله، ولكنه على أوقات ثلاثة: فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صليت فيه، وأما من بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل دون ذلك، وأما بعد نصف الليل دون كل ما قبله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في كون ما بعد نصف الليل وقتا من وقت العشاء ما هو أولى وأقرب، من حديث أنس -رضي الله عنه- الذي فيه ذكر شطر الليل، وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- فإنه يدل على أنس -رضي الله عنه- صلاها بعد ذهاب أكثر الليل؛ لأنها قالت: "حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى" . فإن عامة الليل: معظمه وأكثره، ثم إن النبي -عليه السلام- أخبر أن ذلك وقت لها.

                                                وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم ، عن علي بن معبد بن نوح ، وعن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي ، كلاهما عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور ، عن عبد الملك بن جريج المكي ، عن المغيرة بن حكيم الصنعاني ، عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها- عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-.

                                                [ ص: 233 ] وأخرجه مسلم : حدثني إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم ، كلاهما عن محمد بن بكر .

                                                وحدثني هارون بن عبد الله ، قال: ثنا حجاج بن محمد .

                                                وحدثني حجاج بن الشاعر ومحمد بن نافع ، قالا: ثنا عبد الرزاق - وألفاظهم متقاربة - قالوا جميعا: عن ابن جريج ، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم ، عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته، عن عائشة قالت: "أعتم رسول الله -عليه السلام- ذات ليلة..." إلى آخره نحوه سواء، وفي حديث عبد الرزاق : "لولا أن يشق على أمتي...".

                                                قوله: "أعتم" أي: دخل في العتمة، وقد ذكرنا معناه مستوفى عن قريب.

                                                قوله: "ذات ليلة" هذا اللفظ وقولهم "ذات يوم" و: "ذا يوم" و: "ذا ليلة" كلها كناية عن يوم وليلة، والمعنى: أعتم رسول الله -عليه السلام- مدة التي هي ليلة.

                                                قوله: "إنه لوقتها" أي: إن هذا الوقت لوقت العشاء الآخرة، و: "اللام" في "لوقتها"للتأكيد، وهي مفتوحة.

                                                قوله: "لولا أن أشق" أي أثقل وأحرج، وجواب "لولا" محذوف يدل عليه: "إنه لوقتها"والتقدير: لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقتها هذا الوقت كل وقت، ولكن تركه لوجود المشقة، وإنما قلنا كذا لأن "لولا" لانتفاء الثاني لوجود الأول، نحو لولا زيد لهلك عمرو ؛ فإن هلاك عمرو منتف لوجود زيد، وكذلك ها هنا وجوب التأخير إلى هذا الوقت منتف لوجود المشقة، وأما "لو" فإنه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول، نحو: لو جئتني لأكرمتك؛ فإن الإكرام منتف لانتفاء المجيء.

                                                فإن قيل: كان ينبغي أن تكون سنية التأخير كنية السواك حيث قال -عليه السلام-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل" .

                                                [ ص: 234 ] رواه الترمذي ، والنسائي : وذلك لأن الأمر بالسواك وتأخير العشاء كلاهما منتفيان لوجود المشقة، ومع هذا السواك سنة وتأخير العشاء وكلاهما لوجود المشقة ومع هذا السواك سنة وتأخير العشاء مستحب.

                                                قلت: لم تثبت سنية السواك بعد هذا إلا بمواظبته -عليه السلام-، ولولاها لقلنا باستحبابه أيضا، ولم توجد المواظبة في تأخير العشاء، فلم تثبت السنية فبقي مستحبا.

                                                وجواب آخر: أنه قال في السواك: "لأمرتهم". وهو للوجوب، ولكن امتنع الوجوب لعارض المشقة فيكون سنة، وأما في التأخير فقد قال: "لأخرت" وفعله مطلقا يدل على الاستحباب أو الوجوب.




                                                الخدمات العلمية