الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل بن الملك نور الدين صاحب حلب وما جرى بعده من الأمور

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة حلب [ ص: 552 ] ودفن بها ، وكان سبب وفاته - فيما قيل - أن الأمير علم الدين سليمان بن جندر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد ، وقيل : بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب . وقيل : في خشكنانجة . فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات ، رحمه الله ، وهو شاب حسن الصورة ، بهي المنظر ، ولم يبلغ عشرين سنة ، وكان من أعف الملوك ، ومن أشبه أباه فما ظلم ، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر ، فاستفتى بعض الفقهاء في شربها تداويا ، فأفتاه بذلك ، فقال له : أيزيد شربها في أجلي ، أو ينقص منه شيئا ؟ قال : لا . قال : فوالله لا أشربها فألقى الله وقد شربت ما حرمه علي . ولما يئس من نفسه استدعى الأمراء ، فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل ; لقوة سلطانه وتمكنه ; ليمنعها من صلاح الدين ، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي ، صاحب سنجار ، وهو زوج أخته وتربية والده ، فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين ، فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين ، صاحب الموصل فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظيمة ، وكان يوما مشهودا ، وذلك في العشرين من شعبان ، فتسلم خزائنها وحواصلها ، وما فيها من السلاح ، وكان تقي الدين عمه بمدينة منبج فهرب إلى حماة ، فوجد أهلها قد نادوا بشعار عز الدين صاحب الموصل وأطمع الحلبيون عز الدين مسعودا في أخذ دمشق ; لغيبة صلاح الدين بالديار المصرية ، وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي ، فقال : بيننا وبينه أيمان وعهود ، وأنا أغدر به! فأقام بحلب شهورا ، وتزوج بأم [ ص: 553 ] الملك الصالح في شوال ، ثم سار إلى الرقة فنزلها ، وجاءته رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار ، وألح في ذلك ، وتمنع أخوه ثم فعل ذلك على كره منه ، فسلم إليه حلب وسلمه عماد الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج ، وغير ذلك من البلاد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره ، فسار حتى أتى الفرات فعبرها ، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل فتقهقر عن لقائه ، فاستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها ، وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق ذلك ، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي ; لضعفه عن ممانعتها ; لقلة ما ترك فيها عز الدين من الأسلحة وآلات القتال ، وذلك في السنة الآتية ، كما سنذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة عزم البرنس صاحب الكرك لعنه الله ، على قصد تيماء من أرض الحجاز ; ليتوصل منها إلى المدينة النبوية ، فجهزت له سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز ، فصده ذلك عن قصده ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولى السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن فملكه عليها ، وأرسله إليها ، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها ، بعد وفاة المعظم تورانشاه أخي السلطان الذي كان افتتحها ، فلما وقعت الفتن بها ، وكثر التخليط والتخبيط ، سمت نفس أخيه طغتكين إليها ، فأرسله أخوه إليها وولاه عليها ، فسار فوصلها في سنة ثمان وسبعين ، فسار فيها أحسن سيرة ، وأكمل بها المعدلة والسريرة ، واحتاط على أموال حطان بن منقذ نائب زبيد وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر ، وأما نائب عدن فخر الدين عثمان الزنجيلي فإنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين [ ص: 554 ] فسكن الشام وله أوقاف مشهورة باليمن ومكة ، وإليه تنسب المدرسة الزنجيلية ، خارج باب توما ، تجاه دار الطعم ، وكان قد حصل منها أموالا عظيمة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها غدرت الفرنج ونقضوا عهودهم ، وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا ، وسرا وجهرا ، فأمكن الله من بطسة عظيمة لهم فيها نحو من ألفين وخمسمائة نفس من رجالهم المعدودين فيهم ، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر ، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة منهم ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها سار قراقوش إلى بلاد إفريقية ، ففتح بلادا كثيرة ، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن ، واستفحل أمره هناك ، وهو من جملة مماليك تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين ، ثم عاد إلى الديار المصرية ، فأمره السلطان بأن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر ، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة ، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله ، عز وجل ، بعد أن أراه الله مناه قبل حلول الوفاة ، فأقر عينه من أعداه ، وفتح على يده بيت المقدس وما حوله وما حواه ، ولما خيم بارزا من مصر ، أحضر أولاده حوله فجعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم ، فأنشد بعضهم :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكان الأمر كما قال ، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام ، بل كان مقامه بالشام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 555 ] وفي هذه السنة ولد للسلطان ولدان ; وهما المعظم تورانشاه ، والملك المحسن أحمد ، وكان بين ولادتهما سبعة أيام ، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية