الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما صحة التوبة عن بعض الذنوب فهي أصل السنة وإنما يمنع صحتها المعتزلة والقائلون بالاحتياط وأنه لا تنفع طاعة مع معصية ، فأما من صحح الطاعة مع المعاصي صحح التوبة من بعض المعاصي انتهى كلامه . وذكر هذه الرواية القاضي .

ذكر ابن عقيل في الإرشاد هذه الرواية ولفظها قال : أي توبة هذه ؟ وصرح أنها اختياره وأنها قول جمهور المتكلمين ، وقد قال أحمد في تعاليق إبراهيم الحربي لو كان في الرجل مائة خصلة من خصال الخير وكان يشرب النبيذ لمحتها كلها ، وهذا من أغلظ ما يكون ، واحتج لاختياره بما ليس فيه حجة .

وقال الشيخ تقي الدين : إنما أراد يعني أحمد أن هذه ليست توبة عامة ، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر فإن نصوصه المتواترة تنافي ذلك ، وحمل كلامه على ما يصدق بعضه بعضا أولى ، لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف ، انتهى كلامه .

وقال ابن عقيل أيضا في الفنون : قال بعض الأصوليين لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، فإن الإنسان لو قتل لإنسان ولدا ، وأحرق له بيدرا ثم اعتذر عن إحراق البيدر دون قتل الولد لم يعد اعتذارا ، وهذا ظاهر على مذهب أحمد ، ويجب أن يكون هو المذهب ; لأن أحمد قال إذا ترك الصلاة تكاسلا كفر وإن كان مقيما على الزكاة والحج وغير ذلك انتهى كلامه .

وفي مأخذه نظر ظاهر قال القاضي أبو الحسين : اختلفت الرواية هل تصح التوبة من القبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم التائب بقبحه أو لا يعلم على روايتين :

( إحداهما ) تصح ، اختارها والدي وشيخه ; لأنه لا خلاف أنه يصح التقرب من المكلف بفعل واجب مع ترك مثله في الوجوب كذا في مسألتنا [ ص: 57 ]

( والثانية ) لا تصح اختارها أبو بكر واحتج بقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } :

فوعد بغفران الصغائر باجتناب الكبائر ، فإذا ارتكب الكبائر أخذ بالكبائر والصغائر ، واختارها ابن شاقلا واحتج بأنه يستحيل أن يكون محبوبا لقوله تعالى : { إن الله يحب التوابين } . ويكون في حال ما هو محبوب يفعل ما هو ممقوت .

وروى أحمد ومسلم عن الأغر بن يسار المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله عز وجل في اليوم مائة مرة } .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا { يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة } رواه مسلم والبخاري وقال : " سبعين مرة " ولأحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا { والله إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة } .

ولأحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سالم بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله ، } محمد بن مصعب مختلف فيه ولم يسمع الحسن من الأسود .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما وأنس مرفوعا { لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب } متفق عليه .

ولأحمد والبخاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة } وإن جهله تاب مجملا ، والمراد والله أعلم توبة عامة وإلا فقد ذكر الشيخ تقي الدين أن التوبة [ ص: 58 ] المجملة لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق بخلاف العام وما قاله صحيح ، وعنه لا تقبل من الداعية إلى بدعته المضلة والقاتل ، ذكرها القاضي وأصحابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية