الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        27946 - قال : مالك في الرجل يبيع من الرجل الجارية بمائة دينار إلى أجل ، ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل ، الذي باعه إليه : إن ذلك لا يصلح ، وتفسير ما كره من ذلك ، أن يبيع الرجل الجارية إلى أجل ، ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه ، يبيعها بثلاثين دينارا إلى شهر ، ثم يبتاعها بستين دينارا إلى سنة ، أو إلى نصف سنة ، فصار إن رجعت إليه سلعته بعينها ، وأعطاه صاحبه ثلاثين دينارا إلى شهر ; بستين دينارا إلى سنة ، أو إلى نصف سنة . فهذا لا ينبغي .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        27947 - قال أبو عمر : حكم هذا عنده إذا باع السلعة بثمن إلى أجل ، ثم اشتراها إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن ، كحكم من باعها إلى أجل بثمن ، ثم ابتاعها بالنقد بأقل من ذلك لأنه في كلا الوجهين ترجع إليه سلعته بعينها ، ويحصل بيده دراهم ، أو ذهب ، بأكثر منها إلى أجل ، وهذا هو الربا ، لا شك فيه لمن قصده .

                                                                                                                        27948 - إلا أن العلماء قد اختلفوا في هذا المعنى ، وهذا مذهب من رأى [ ص: 21 ] قطع الدراهم ; لما يغلب على الظن أن المتبايعين قصدا إليه .

                                                                                                                        27949 - وأما من رأى أن البيع على ظاهره ، وأن تهمة المسلم بما لا يحل له حرام عليه لم يقل بشيء من ذلك .

                                                                                                                        27950 - والذي ذهب إليه مالك في هذا الباب هو قول جمهور أهل المدينة .

                                                                                                                        27951 - ذكر ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة ، وأبي الزناد أنهما [ ص: 22 ] قالا : إذا بعت شيئا إلى أجل ، فلا تبتعه من صاحبه الذي بعته منه ، ولا من أحد يبيعه له ، أو يتبايعه إلى دون ذلك الأجل إلا بالثمن الذي بعته منه به ، أو بأكثر ولا يبيع منه تلك السلعة إلى دون ذلك الأجل إلا بالثمن أو أقل فإذا ابتعته إلى الأجل بعينه ابتعته بالثمن ، أو بأكثر ، أو بأقل .

                                                                                                                        27952 - قال : وأخبرني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد نحوه .

                                                                                                                        27953 - قال : وقال لي عبد العزيز بن أبي سلمة ، ومالك بن أنس مثل ذلك .

                                                                                                                        27954 - وقال لي مالك بن أنس : لا بأس أن يبتاعها بنقد أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه بأكثر من ثمنها الذي باعها به ; لأنه لا يتهم أحد أن يعطي عشرة دنانير نقدا ، أو إلى شهر ، إلى شهرين بخمسة دنانير إلى سنة .

                                                                                                                        27955 - قال : وقال لي مالك : لا بأس أن يبتاعها إلى أبعد من أجلها بأقل من ثمنها ; لأنه لا يتهم أحد أن يأخذ عشرين دينارا إلى أجل بخمسة عشر دينارا .

                                                                                                                        27956 - قال : مالك : وإنما يتهم إذا باعها بمائة دينار إلى أجل من اشتراها بأقل من ذلك ، والثمن نقدا من ذلك ، أو أكثر منه إلى أبعد من ذلك الأجل ; لأنه أعطاه عشرة دنانير نقدا بخمسة عشر دينارا إلى أجل ، وأعطاه عشرة دنانير إلى ثلاث ليال ، أو إلى شهر بعشرين ، أو نحوها إلى سنة .

                                                                                                                        27957 - قال ابن وهب : وقال لي عبد العزيز بن أبي سلمة مثل ذلك كله .

                                                                                                                        [ ص: 23 ] 27958 - قال أبو عمر : كان أبو حنيفة ، وأصحابه يذهبون في ذلك نحو مذهب مالك .

                                                                                                                        27959 - وهو قول الثوري ، والحسن بن صالح ، وأحمد بن حنبل ، والأوزاعي ، قالوا فيمن اشترى جارية بألف درهم ، فقبضها ثم باعها من البائع بأقل من الألف قبل أن ينقد الثمن : إن البيع الثاني باطل .

                                                                                                                        27960 - وقال الحسن بن حي فيمن باع بيعا بنسيئة لم يجز للبائع أن يشتريه بنقد قبل قبض الثمن ، ولا يعرض إلا أن يكون العرض قيمة الثمن ، أو أكثر من ذلك ، ولا يشتريه بعرض قيمته أقل من الثمن حتى يستوفي الثمن كله .

                                                                                                                        27961 - قال : وإن نقصت السلعة بيد المشتري ، فلا بأس أن يشتريها البائع بأقل من ذلك الثمن سواء كان نقصان العيب لها قليلا ، أو كثيرا .

                                                                                                                        27962 - وقال الأوزاعي : في رجل باع خادما إلى سنة ، ثم جاء الأجل به يأخذه منه بقيمته يوم قبضه ، ولا يشتريه بدون الثمن قبل محل الأجل إلا بالثمن أو أكثر .

                                                                                                                        27963 - وقال أحمد : من باع سلعة بنسيئة ، لم يجز لأحد أن يشتريها بأقل مما باعها به .

                                                                                                                        [ ص: 24 ] 27964 - قال أبو عمر : حجة من ذهب في هذه المسألة مذهب مالك ، والكوفيين حديث أبي إسحاق ، والشعبي ، عن امرأته أم يونس ، واسمها العالية ، عن عائشة أنها سمعتها ، وقد قالت لها أم محبة ; أم ولد كانت لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين ! إني بعت من زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت : بئس ما شريت ، وبئسما اشتريت ، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ، قال : فقلت : أرأيت إن تركت مائتين وأخذت الستمائة ؟ قال : نعم ، من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف .

                                                                                                                        27965 - قالوا : ولا يجوز أن تنكر عائشة على زيد رأيه برأيها ، فعلمنا أن ذلك توقيف .

                                                                                                                        27966 - هكذا رواه معمر ، عن أبي إسحاق .

                                                                                                                        27967 - ورواه ابن عيينة ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أمه ، قالت : دخلت مع امرأة أبي السفر على عائشة ، فقالت لها امرأة أبي السفر : إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم اشتريته منه بستمائة درهم ، فقالت لها عائشة : بئسما شريت ، وبئسما اشتريت ، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ، فقالت امرأة أبي السفر : فإني قد تبت ، [ ص: 25 ] فقالت عائشة : فإن تبتم ، فلكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون .

                                                                                                                        27968 - ورواه الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن امرأته قالت : سمعت امرأة أبي السفر ، تقول : قلت لعائشة : بعت من زيد بن أرقم ، وذكر الخبر كله بمعناه .

                                                                                                                        27969 - وهو خبر لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولا هو مما يحتج به عندهم .

                                                                                                                        26970 - وامرأة أبي إسحاق ، وامرأة أبي السفر ، وأم ولد زيد بن أرقم كلهن غير معروفات بحمل العلم .

                                                                                                                        [ ص: 26 ] 27971 - وفي مثل هؤلاء روى شعبة عن أبي هشام أنه قال : كانوا يكرهون الرواية عن النساء ، إلا عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        27972 - والحديث منكر اللفظ لا أصل له ; لأن الأعمال الصالحة لا يحبطها الاجتهاد ، وإنما يحبطها الارتداد ، ومحال أن تلزم عائشة زيدا التوبة برأيها ، ويكفره اجتهادها ، فهذا ما لا ينبغي أن يظن به ولا يقبل عليها .

                                                                                                                        37973 - وقد روى أبو معاوية ، وغيره ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان عمر ، وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا السكنى ، والنفقة ، وكان عمر إذا ذكر حديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : لا سكنى لك ، ولا نفقة ، يقول ما كنا نخير في ديننا شهادة امرأة .

                                                                                                                        27974 - قال أبو عمر : إذا كان هذا في امرأة معروفة بالدين ، والفضل ، فكيف بامرأة مجهولة ؟ .

                                                                                                                        27975 - وقال عثمان البتي : إذا كان لا يريد المخادعة والدلسة ، فلا بأس أن يشتريه بدون ذلك الثمن ، أو أكثر قبل محل الأجل ، وبعده .

                                                                                                                        27976 - وقال الشافعي : يجوز أن يشتريه بأقل من الثمن الأول ، أو أكثر قبل الأجل وبعده ، إن لم يكن بينهما قصد لمكروه .

                                                                                                                        27977 - وقال الشافعي : في حديث عائشة المذكور : لا يثبت مثل هذا [ ص: 27 ] عندنا عن عائشة ، ولو كان ثابتا أمكن أن تكون عائشة أنكرت البيع إلى العطاء ; لأنه أجل غير معلوم ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع إلى أجل غير معلوم ، وجعل الله الأهلة مواقيت للناس ، وزيد صحابي ، وإذا اختلف الصحابة ، فمذهبنا القياس ، وهو مع زيد ; لأن السلعة إذا كانت لي بشرائي لها ، فهي كسائر مالي ، فلم أبع ملكي بما شئت بلغ ، وممن شئت .

                                                                                                                        27978 - وقال بقول الشافعي في هذه المسألة أصحابه ، وأبو ثور ، وداود .

                                                                                                                        27979 - وقد روي عن طاوس ، وسعيد بن جبير أنهما قالا : من اشترى سلعة بنظرة من رجل ، فلا يبيعها منه بنقد ، ومن اشتراها منه بنقد ، فلا يبيعه منه بنظرة .

                                                                                                                        27980 - وروي عن ابن عمر ، وابن سيرين مثل قول الشافعي .

                                                                                                                        27981 - وروي عن الشعبي ، وإبراهيم ، وحماد مثل قول أبي حنيفة .

                                                                                                                        27982 - وكان الثوري وجماعة الكوفيين يجيزون لبائع الدابة بنظرة أن يشتريها بالنقد إذا عجفت ، وتغيرت عن حالها .

                                                                                                                        27983 - وفي " المدونة " لابن القاسم ، عن مالك أن ذلك جائز إذا حدث [ ص: 28 ] بالسلعة عيب مفسد مثل العور ، والعرج ، والقطع ، ونحو ذلك .

                                                                                                                        27984 - وفي " العتبية " لأشهب ، عن مالك أن ذلك لا يجوز ، وهذا مما لا يؤمن الناس على مثله .

                                                                                                                        27985 - وقال سحنون : هذه خير من رواية ابن القاسم .

                                                                                                                        27986 - وذكر ابن المواز ، عن ابن القاسم نحو ما في " المدونة " ، وزاد : قال : فكذلك لو مكث العبد عنده زمانا ، أو سافر به من أفريقيا إلى الحج ، ثم وجده البائع ينادي عليه أو على الدابة في السوق ، فأراد أن يشريها بأقل من الثمن الذي باعها به أنه لا يتهم في مثل ذلك إذا سافر بها ، وأدبر الدابة وغيرها عن حالها .

                                                                                                                        27987 - ورواه عن مالك ، قال : وقال أشهب : لا يجوز ذلك ، وقد سألت عنها مالكا ، فقال : لا يصلح ، ولا يؤمن عليه أحد .

                                                                                                                        27988 - قال أبو عمر : هذا يدلك أنهم إنما كرهوه للتهم ، وليس كل الناس يتهم في مثل ذلك ، فلا ينبغي أن يظن بالمسلم الطاهر إلا الصلاح ، والخير .




                                                                                                                        الخدمات العلمية