الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 346 ] ذكر هجرة الخليل إلى بلاد الشام ودخوله الديار المصرية واستقراره في الأرض المقدسة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ العنكبوت : 26 - 27 ] . وقال تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ الأنبياء : 71 - 73 ] . لما هجر قومه في الله ، وهاجر من بين أظهرهم ، وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها ، ولم يكن له من الولد أحد ، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته ، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه خلعة من الله وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه ، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل ودعوة الخلق إليه ، والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام ، وهي التي قال الله عز وجل : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . قاله أبي بن كعب ، وأبو العالية ، [ ص: 347 ] وقتادة ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى العوفي ، عن ابن عباس قوله : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . مكة ألم تسمع إلى قوله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين [ آل عمران : 96 ] . وزعم كعب الأحبار أنها حران . وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط ، وأخوه ناحور ، وامرأة إبراهيم سارة ، وامرأة أخيه ملكا ، فنزلوا حران فمات تارخ أبو إبراهيم بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها . رواه ابن جرير ، وهو غريب ، والمشهور أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران ، ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط ، كما حكاه السهيلي ، عن القتبي ، والنقاش فقد أبعد النجعة ، وقال بلا علم ، وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل . ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت ، كما هو منقول عن الربانيين من اليهود ، فإن الأنبياء لا تتعاطاه ، والله أعلم . ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده ، كما تقدم ، والله أعلم . وذكر أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه النعمة ، وضرب قبته شرقي بيت [ ص: 348 ] المقدس ، ثم انطلق مرتحلا إلى اليمن ، وأنه كان جوع أي قحط وشدة ، وغلاء فارتحلوا إلى مصر ، وذكروا قصة سارة مع ملكها ، وأن إبراهيم قال لها قولي : أنا أخته . وذكروا إخدام الملك إياها هاجر ، ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس ، وما والاها ومعه دواب وعبيد وأموال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ثنتان منهن في ذات الله قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس . فأرسل إليه فسأله عنها . فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ ، فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك . فدعت الله فأطلق ، ثم تناولها الثانية ، فأخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك . فدعت فأطلق فدعا بعض حجبته ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجر . فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده ؛ مهيم ؟ فقالت : رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره ، وأخدم هاجر . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء . تفرد به من هذا الوجه موقوفا . [ ص: 349 ] وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن عبد الوهاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله : قوله : إني سقيم . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة إذ نزل منزلا ، فأتي الجبار ، فقيل له : إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال : إنها أختي ، فلما رجع إليها قال : إن هذا سألني عنك فقلت : إنك أختي ، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك ، وإنك أختي فلا تكذبيني عنده ، فانطلق بها ، فلما ذهب يتناولها أخذ ، فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك فدعت له فأرسل فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك . فدعت فأرسل ثلاث مرات ، فدعا أدنى حشمه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، ولكن أتيتني بشيطان أخرجها ، وأعطها هاجر . فجاءت وإبراهيم قائم يصلي ، فلما أحس بها انصرف ، فقال : مهيم ؟ فقالت : كفى الله كيد الظالم ، وأخدمني هاجر . وأخرجاه من حديث هشام . ثم قال البزار : لا نعلم أسنده عن محمد ، عن أبي هريرة إلا هشام . ورواه غيره موقوفا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن حفص ، عن ، ورقاء هو ابن عمر اليشكري ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول [ ص: 350 ] الله صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ؛ قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال : إني سقيم . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . وقوله لسارة : إنها أختي . قال : ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل : دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس . قال : فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك ؟ قال : أختي . قال : فأرسل بها . قال : فأرسل بها إليه . وقال : لا تكذبي قولي ، فإني قد أخبرته أنك أختي ، إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك ، فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت توضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر . قال : فغط حتى ركض برجله . قال أبو الزناد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنها قالت : اللهم إن يمت يقل : هي قتلته . قال : فأرسل . قال : ثم قام إليها . قال : فقامت توضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر . قال : فغط حتى ركض برجله . قال أبو الزناد ، وقال أبو سلمة ، عن أبي هريرة أنها قالت : اللهم إن يمت يقل هي قتلته . قال : فأرسل . قال : فقال في الثالثة أو الرابعة : ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم ، وأعطوها هاجر . قال : فرجعت فقالت لإبراهيم : أشعرت ؟ إن الله رد كيد الكافر وأخدم وليدة . تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو على شرط الصحيح ، وقد رواه البخاري ، عن أبي اليمان ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد ، عن [ ص: 351 ] الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال : ما منها كلمة إلا ماحل بها عن دين الله ، فقال : إني سقيم وقال : بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته : هي أختي . فقوله في الحديث . هي أختي . أي في دين الله ، وقوله لها إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك . يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ، ويتعين حمله على هذا ؛ لأن لوطا كان معهم ، وهو نبي عليه السلام ، وقوله لها لما رجعت إليه : مهيم ؟ معناه ما الخبر فقالت : . إن الله رد كيد الكافر . وفي رواية الفاجر . وهو الملك . وأخدم جارية . وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله ، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء ، وهكذا فعلت هي أيضا كلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرا قامت إلى وضوئها وصلاتها ، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم ؛ ولهذا قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة . فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 352 ] وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة ؛ سارة ، وأم موسى ، ومريم عليهن السلام والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن ورأيت في بعض الآثار أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام ، وبينها فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه ، وكان مشاهدا لها وهي عند الملك ، وكيف عصمها الله منه ؛ ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته ، فإنه كان يحبها حبا شديدا لدينها ، وقرابتها منه وحسنها الباهر ، فإنه قد قيل : إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها رضي الله عنها ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعض أهل التواريخ : أن فرعون مصر هذا كان أخا للضحاك الملك المشهور بالظلم ، وكان عاملا لأخيه على مصر . ويقال : كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن بايلبون بن سبأ ، وكان على مصر نقله السهيلي فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن ، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل ، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية ، ثم إن لوطا عليه السلام نزح بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور ، المعروف بغور زغر ، فنزل بمدينة سدوم ، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان ، وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا ، [ ص: 353 ] وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل يأمره أن يمد بصره ، وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ، ولخلفك إلى آخر الدهر ، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض ، وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة ، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية ، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها . قالوا : ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام فأسروه ، وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه ، فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل عليه السلام سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا ، فاستنقذ لوطا عليه السلام واسترجع أمواله ، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقا كثيرا وهزمهم ، وساق في آثارهم حتى وصل إلى شمالي دمشق ، وعسكر بظاهرها عند برزة ، وأظن مقام إبراهيم المنسوب إليه ببرزة اليوم إنما سمي ؛ لأنه كان موضع موقف جيش الخليل ، والله أعلم . ثم رجع مؤيدا منصورا إلى بلاده ، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين ، واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية