الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قاعدة في حذف المفعول اختصارا واقتصارا .

قال ابن هشام : جرت عادة النحويين أن يقولوا بحذف المفعول اختصارا واقتصارا ، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل ، ويريدون بالاقتصار الحذف لغير دليل ، ويمثلونه بنحو : [ ص: 85 ] كلوا واشربوا [ الطور : 19 ] ؛ أي : أوقعوا هذين الفعلين ، والتحقيق أن يقال - يعني كما قال أهل البيان - : تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه ، ومن أوقع عليه ، فيجاء بمصدره مسندا إلى فعل كون عام ، فيقال : حصل حريق أو نهب ، وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفعل للفاعل ، فيقتصر عليهما ، ولا يذكر المفعول ولا ينوى ؛ إذ المنوي كالثابت ، ولا يسمى محذوفا ؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له .

ومنه : ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] ، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر : 9 ] ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف : 31 ] ، وإذا رأيت ثم [ الإنسان : 20 ] ؛ إذ المعنى : ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة ، وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم ، وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف ، وإذا حصلت منك رؤية .

ومنه : ولما ورد ماء مدين [ القصص : 23 ] الآية ، ألا ترى أن عليه الصلاة والسلام رحمهما ؛ إذ كانتا على صفة الذياد ، وقومهما على السقي ، لا لكون مذودهما غنما وسقيهم إبلا ، وكذلك المقصود من : لا نسقي السقي لا المسقي . ومن لم يتأمل قدر ( يسقون إبلهم ) ، و ( تذودان غنمهما ) ، و ( لا نسقي غنما ) . وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله فيذكران ، نحو : لا تأكلوا الربا [ آل عمران : 130 ] ، ولا تقربوا الزنا [ الإسراء : 32 ] ، وهذا النوع الذي إذا لم يذكر محذوفه قيل محذوف .

وقد يكون اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره ، نحو : أهذا الذي بعث الله رسولا [ الفرقان : 41 ] ، وكلا وعد الله الحسنى [ النساء : 95 ] ، وقد يشتبه الحال في الحذف وعدمه ، نحو : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [ الإسراء : 110 ] . قد يتوهم أن معناه ( نادوا ) ، فلا حذف ، أو ( سموا ) فالحذف واقع .

ذكر شروطه : هي ثمانية :

أحدها : وجود دليل إما حالي ، نحو : قالوا سلاما [ هود : 69 ] ؛ أي : سلمنا سلاما . أو مقالي ، نحو : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا [ النحل : 30 ] ؛ أي : أنزل خيرا .

[ ص: 86 ] قال سلام قوم منكرون [ الذاريات : 25 ] ؛ أي : سلام عليكم ، أنتم قوم منكرون .

ومن الأدلة : العقل : حيث يستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف . ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه ، بل يستفاد التعيين من دليل آخر ، نحو : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] ، فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة ؛ لأن التحريم لا يضاف إلى الأجرام ، وإنما هو والحل يضافان إلى الأفعال ، فعلم بالعقل حذف شيء .

وأما تعيينه - وهو التناول - فمستفاد من الشرع ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : إنما حرم أكلها ؛ لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة .

وأما قول صاحب التلخيص أنه من باب دلالة العقل أيضا ، فتابع به السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة .

وتارة يدل العقل أيضا على التعيين ، نحو : وجاء ربك [ الفجر : 22 ] ؛ أي : أمره بمعنى عذابه ؛ لأن العقل دل على استحالة مجيء البارئ ؛ لأنه من سمات الحادث ، وعلى أن الجائي أمره .

أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] ، وأوفوا بعهد الله [ النحل : 91 ] ؛ أي : بمقتضى العقود ، وبمقتضى عهد الله ؛ لأن العقد والعهد قولان قد دخلا في الوجود وانقضيا ، فلا يتصور فيهما وفاء ولا نقض ، وإنما الوفاء والنقض بمقتضاهما وما ترتب عليهما من أحكامهما .

وتارة يدل على التعيين العادة ، نحو : فذلكن الذي لمتنني فيه [ يوسف : 32 ] ، دل العقل على الحذف ؛ لأن يوسف لا يصح ظرفا للوم ، ثم يحتمل أن يقدر : ( لمتنني في حبه ) لقوله : قد شغفها حبا [ يوسف : 30 ] ، وفي مراودتهما لقوله : تراود فتاها [ يوسف : 30 ] ، والعادة دلت على الثاني ؛ لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه عادة ؛ [ ص: 87 ] لأنه ليس اختياريا بخلاف المراودة للقدرة على دفعها .

وتارة يدل على التصريح به في موضع آخر ، وهو أقواها ، نحو : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله [ البقرة : 210 ] ؛ أي : أمره ، بدليل : أو يأتي أمر ربك [ النحل : 33 ] ، وجنة عرضها السماوات [ آل عمران : 133 ] ؛ أي : كعرض ، بدليل التصريح به في آية الحديد . رسول من الله [ البينة : 2 ] ؛ أي : من عند الله ، بدليل : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم [ البقرة : 101 ]

ومن الأدلة على أصل الحذف العادة بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف ، نحو : لو نعلم قتالا لاتبعناكم [ آل عمران : 167 ] ؛ أي : مكان قتال ، والمراد مكانا صالحا للقتال ؛ وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال ، ويتعيرون بأن يتفوهوا بأنهم لا يعرفونه ، فالعادة تمنع أن يريدوا : لو نعلم حقيقة القتال : فلذلك قدره مجاهد ( مكان قتال ) ، ويدل عليه أنهم أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة .

ومنها : الشروع في الفعل ، نحو : ( بسم الله ) ، فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له ، فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت ( أقرأ ) ، أو الأكل قدرت ( آكل ) ، وعلى هذا أهل البيان قاطبة خلافا لقول النحاة : إنه يقدر : ابتدأت أو ابتدائي كائن ( بسم الله ) ، ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها [ هود : 41 ] ، وفي حديث : باسمك ربي وضعت جنبي

ومنها : الصناعة النحوية كقولهم في : لا أقسم [ القيامة : 1 ] ، التقدير : ( لأنا أقسم ) ؛ لأن فعل الحال لا يقسم عليه ، وفي : تالله تفتأ [ يوسف : 85 ] ، التقدير : لا تفتأ لأنه لو كان الجواب مثبتا دخلت اللام والنون كقوله : وتالله لأكيدن : [ الأنبياء : 57 ] ، وقد توجب الصناعة التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه كقولهم في : [ ص: 88 ] لا إله إلا الله [ محمد : 19 ] : إن الخبر محذوف ؛ أي : موجود .

وقد أنكره الإمام فخر الدين وقال : هذا الكلام لا يحتاج إلى تقدير ، وتقدير النحاة فاسد ؛ لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة ، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد ، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر .

ورد بأن تقديرهم ( موجود ) يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا ، فإن العدم لا كلام فيه ، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة ، ثم لا بد من تقدير خبر ، لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أو مقدر ، وإنما يقدر النحوي ليعطي القواعد حقها ، وإن كان المعنى مفهوما .

تنبيه .

قال ابن هشام : إنما يشترط الدليل فيما إذا كان المحذوف الجملة بأسرها أو أحد ركنيها ، أو يفيد معنى فيها هي مبنية عليه ، نحو : تالله تفتأ [ يوسف : 85 ] ، أما الفضلة فلا يشترط لحذفها وجدان دليل ، بل يشترط أن لا يكون في حذفها ضرر معنوي أو صناعي .

قال : ويشترط في الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف . ورد قول الفراء في : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين [ القيامة : 3 - 4 ] : إن التقدير : ( بل ليحسبنا قادرين ) ؛ لأن الحسبان المذكور بمعنى الظن ، والمقدر بمعنى العلم ؛ لأن التردد في الإعادة كفر ، فلا يكون مأمورا به .

قال : والصواب فيها قول سيبويه : إن : قادرين حال ؛ أي : بل نجمعها قادرين ؛ لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان ، ولأن ( بلى ) لإيجاب المنفي ، وهو فيها فعل الجمع .

الشرط الثاني : أن لا يكون المحذوف كالجزء ، ومن ثم لم يحذف الفاعل ولا نائبه ، ولا اسم كان وأخواتها .

قال ابن هشام : وأما قول ابن عطية في : بئس مثل القوم [ الجمعة : 5 ] : إن تقدير ( بئس المثل مثل القوم ) ، فإن أراد تفسير الإعراب ، وأن الفاعل لفظ المثل محذوفا فمردود ، وإن أراد تفسير المعنى ، وأن في بئس ضمير المثل مستترا فسهل .

الشرط الثالث : أن لا يكون مؤكدا ؛ لأن الحذف مناف للتأكيد إذ الحذف مبني على [ ص: 89 ] الاختصار ، والتأكيد مبني على الطول ، ومن ثم رد الفارسي على الزجاج في قوله في : إن هذان لساحران [ طه : 63 ] : إن التقدير : ( إن هذان لهما ساحران ) ، فقال : الحذف والتوكيد باللام متنافيان ، وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما ؛ لأن المحذوف لدليل كالثابت .

الرابع : أن لا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ومن ثم لم يحذف اسم الفعل لأنه اختصار للفعل .

الخامس : أن لا يكون عاملا ضعيفا ، فلا يحذف الجار ، والناصب للفعل والجازم إلا في مواضع قويت فيها الدلالة ، وكثر فيها استعمال تلك العوامل .

السادس : أن لا يكون المحذوف عوضا عن شيء ، ومن ثم قال ابن مالك : إن حرف النداء ليس عوضا عن ( أدعو ) لإجازة العرب حذفه ؛ ولذا أيضا لم تحذف التاء من إقامة واستقامة . وأما : وإقام الصلاة [ الأنبياء : 73 ] ، فلا يقاس عليه ، ولا خبر كان لأنه عوض أو كالعوض من مصدرها .

السابع : أن لا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل القوي ومن ثم لم يقس على قراءة : وكلا وعد الله الحسنى [ الحديد : 10 ] ،

فائدة : اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن ، ولهذا قال في قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ] : إن الأصل ( لا تجزي فيه ) ، فحذف حرف الجر فصار ( تجزيه ) ، ثم حذف الضمير فصار ( تجزي ) ، وهذه ملاطفة في الصناعة ، ومذهب سيبويه أنهما حذفا معا ، قال ابن جني : وقول الأخفش أوفق في النفس ، وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية