الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة .

              وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات .

              وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل .

              وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .

              وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام .

              فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات .

              فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر .

              الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود .

              والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة .

              وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية