الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 50 ] المسألة الرابعة

              عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها ; فليست بمخصصة لها في الحقيقة ، بل العزائم باقية على عمومها ، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها ; فإطلاق مجازي لا حقيقي .

              والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة ; إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق ، أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة ; إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها ، وإنما يقال هنا : إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق ; فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى ، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام ; فليس بمخاطب بالقيام ، بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر ، وهو العزيمة عليه ، وإن كان الثاني ; فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف ; فلا جناح عليه ، لا أنه سقط عنه فرض القيام .

              والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك .

              وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة .

              وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله .

              فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر .

              وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية