الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 294 ] المسألة الثانية

              رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور : أحدها : أن الكتاب مقطوع به ، والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب ; فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ; فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .

              [ ص: 295 ] [ ص: 296 ] والثاني : أن السنة إما بيان للكتاب ، أو زيادة على ذلك ، فإن كان بيانا ; فهو ثان على المبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين ، وما شأنه هذا ; فهو أولى في التقدم ، وإن لم يكن بيانا ; فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب .

              [ ص: 297 ] [ ص: 298 ] والثالث : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار ; كحديث معاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، الحديث [ ص: 299 ] [ ص: 300 ] [ ص: 301 ] [ ص: 302 ] [ ص: 303 ] [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] [ ص: 306 ] وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح : إذا أتاك أمر ; فاقض بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ; فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ [ ص: 307 ] وفي رواية عنه : إذا وجدت شيئا في كتاب الله ; فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره .

              وقد بين معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله ; فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله ; فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              ومثل هذا عن ابن مسعود : من عرض له منكم قضاء ; فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ; فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 308 ] الحديث وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن شيء ; فإن كان في كتاب الله قال به ، وإن لم يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وهو كثير في كلام السلف والعلماء .

              وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب [ ص: 309 ] على اعتبار السنة ، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة ، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة ، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار .

              فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون : أما أولا ; فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة ; لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما ; فيرجع إلى السنة ، ويترك مقتضى الكتاب .

              وأيضا ; فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره ، وهذا دليل على تقديم السنة ، وحسبك أنها تقيد مطلقه ، وتخص عمومه ، وتحمله على غير ظاهره ، حسبما هو مذكور في الأصول ; فالقرآن آت بقطع كل سارق ; فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز ، وأتى بأخذ الزكاة من [ ص: 310 ] جميع الأموال ظاهرا ; فخصته بأموال مخصوصة ، وقال تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ; فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ; فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه ، ومثل ذلك لا يحصى كثرة .

              وأما ثانيا ; فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول : هل يقدم الكتاب على السنة ، أم بالعكس ، أم هما متعارضان ؟ [ ص: 311 ] وقد تكلم الناس في حديث معاذ ، ورأوا أنه على خلاف الدليل ; فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة ، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب ، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ، ولذلك وقع الخلاف ، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب ، فإذا كان الأمر على هذا ; فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب ، بل المتبع الدليل .

              فالجواب : إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب ، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب ; فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ، ودل على ذلك قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فإذا حصل بيان قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] بأن القطع من الكوع ، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله ; فذلك هو المعنى المراد من الآية ، لا أن نقول : إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب ، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين [ ص: 312 ] معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه ; فلا يصح لنا أن نقول : إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام .

              وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى ، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله واحتماله ، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه .

              وأما خلاف الأصوليين في التعارض ; فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول ، وإلا فالتوقف ، وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني [ ص: 313 ] كلي ، وتبين معنى هذا الكلام هنالك ، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية ، والخبر معارضة أصلين قرآنيين ، فيرجع إلى ذلك ، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة ، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين ، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية ; فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق .

              وأيضا ; فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة ; فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ، ولا كبير جدوى فيه ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية