الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 236 ] ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه ، وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وارثه بعد موته ; لأنه عينه لنوع قربة ، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه ، [ ص: 237 ] إلا أن أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش إنه ينقل إلى مسجد آخر .

التالي السابق


( قوله ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه ) أي استغنى عن الصلاة فيه أهل تلك المحلة أو القرية بأن كان في قرية فخربت وحولت مزارع يبقى مسجدا على حاله عند أبي يوسف ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي . وعن أحمد يباع نقضه ويصرف إلى مسجد آخر ، وكذا في الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها إلى وقف آخر لما روي أن عمر كتب إلى أبي موسى لما نقب بيت المال الذي بالكوفة انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد ( وعن محمد يعود إلى ملك الواقف ) إن كان حيا ( وإلى ورثته ) إن كان ميتا ، وإن لم يعرف بانيه ولا ورثته كان لهم بيعه والاستعانة بثمنه في بناء مسجد آخر . وجه قوله أنه ( عينه لقربة ، وقد انقطعت فينقطع هو أيضا وصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه ) وقنديله إذا خرب المسجد يعود إلى ملك متخذه ، [ ص: 237 ] وكما لو كفن ميتا فافترسه سبع عاد الكفن إلى ملك مالكه ، وكهدي الإحصار إذا زال الإحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء .

واستدل أبو يوسف وجمهور العلماء بالكعبة . فإن الإجماع على عدم خروج موضعها عن المسجدية والقربة ، إلا أن لقائل أن يقول : القربة التي عينت له هو الطواف من أهل الآفاق . ولم ينقطع الخلق عن ذلك زمان الفترة ، وإن كان لا يصح منهم لكفرهم ، على أن الإيمان لم ينقطع من الدنيا رأسا ، فقد كان لمثل قس بن ساعدة أمثال . فالأوجه أنه بعد تحقق سبب سقوط الملك فيه لا يعود كالمعتق كما لا يعود إذا زال إلى مالك من أهل الدنيا إلا بسبب ، ووجب تجدد الملك ، فما لم يتحقق لم يعد . وأما ما قاس عليه من هدي الإحصار فليس بلازم ; لأنه لم يزل ملكه قبل الذبح ، وكذا الكفن باق على ملك مالكه ، إنما أباح الانتفاع به على ملكه ، وقد استغنى المستعير فيعود إلى المعير ، وأما الحصير والقنديل فالصحيح من مذهب أبي يوسف أنه لا يعود إلى ملك متخذه بل يحول إلى مسجد آخر أو يبيعه قيم المسجد للمسجد ، ولأنه ما جعله مسجدا ليصلي فيه أهل تلك المحلة لا غير بل يصلي فيه العامة مطلقا أهل تلك المحلة وغيرهم .

وأما استدلال أحمد بما كتبه عمر لا يفيده ; لأنه يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد . واستدلاله بالانتفاع بالاستبدال مردود بالحديث المشهور . وفي الخلاصة : قال محمد في الفرس إذا جعله حبيسا في سبيل الله فصار بحيث لا يستطاع أن يركب يباع ويصرف ثمنه إلى صاحبه أو ورثته كما في المسجد ، وإن لم يعلم صاحبه يشترى بثمنه فرس آخر يغزى عليه ولا حاجة إلى الحاكم ، ولو جعل جنازة وملاءة ومغتسلا وقفا في محلة ، ومات أهلها كلهم لا يرد إلى الورثة بل يحمل إلى مكان آخر ، فإن صح هذا من محمد فهو رواية في الحصر والبواري أنها لا تعود إلى الورثة .

وهكذا نقل عن الشيخ الإمام الحلواني في المسجد والحوض إذا خرب ولا يحتاج إليه لتفرق الناس عنه أنه يصرف أوقافه إلى مسجد آخر أو حوض آخر . واعلم أنه يتفرع على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما إذا استغني عن المسجد لخراب المحلة والقرية وتفرق أهلها ما إذا انهدم الوقف ، وليس له من الغلة ما يمكن به عمارته أنه يبطل الوقف ويرجع النقض إلى بانيه أو ورثته عند محمد خلافا لأبي يوسف ، وكذا حانوت في سوق احترق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء ألبتة يخرج عن الوقفية ، وكذا في حوض محلة خرب ، وليس له ما يعمر به فهو لوارثه ، فإن لم يعرف فهو لقطة ، وكذا الرباط إذا خرب يبطل الوقف ويصير ميراثا ، ولو بنى رجل على هذه الأرض فالبناء للباني ، وأصل الوقف لورثة الواقف عند محمد ، فقول من قال : في جنس هذه المسائل نظر فليتأمل عند الفتوى غير واقع موقعه . وفي الفتاوى الظهيرية : سئل الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي بيعها ، ويشتري بثمنها أخرى ؟ قال نعم .

وروى هشام عن محمد أنه قال : إذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره ، وعلى هذا فينبغي أن لا يفتي على قوله برجوعه إلى ملك الواقف وورثته بمجرد تعطله وخرابه ، بل إذا صار بحيث لا ينتفع به يشترى بثمنه وقف آخر يستغل ، ولو كانت غلته دون غلة الأول ، وكذا للمتولي أن يبيع من تراب مسبلة إذا كان فيه مصلحة . وفي فتاوى قاضي خان : وقف على مسمين خرب ولا ينتفع به ولا يستأجر أصله يبطل الوقف ويجوز بيعه ، وإن كان أصله يستأجر بشيء قليل يبقى أصله وقفا انتهى .

ويجب حفظ هذا فإنه قد تخرب الدار وتصير كوما وهي بحيث لو نقل نقضها استأجر أرضها من يبني أو يغرس ولو بقليل فيغفل عن ذلك وتباع [ ص: 238 ] كلها للواقف مع أنه لا يرجع منها إليه إلا النقض . فإن قلت : على هذا تكون مسألة الرباط التي ذكرنا مقيدة بما إذا لم تكن أرضه بحيث تستأجر . قلنا : إلا لأن الرباط موقوف للسكنى وامتنعت بانهدامه ، بخلاف هذه فإن المراد وقف يكون لاستغلال الجماعة المسمين ، ولو انهدم بعض بناء الدار ، وليس ثم ما يعاد به يباع ويحفظ ثمنه في يد القائم بأمر الواقف إلى أن يحتاج الباقي إلى العمارة فيصرف فيه ، وكذا إذا يبس بعض أشجار الأرض الموقوفة يبيعها ولا يبيع من نفس الأرض لذلك ولا يعطى المستحقون شيئا من ثمن النقض ولا من عينه بوجه من الوجوه ; لأنه لا حق لهم فيما سوى الغلة ، بل الحال أنه إن أمكن شراء شيء يستغل ولو قليلا أو إجارة الأرض بشيء ولو قليلا فعل وحفظه لعمارة ما بقي .

ولو خرب الكل وتعذر أن يشترى بثمنه مستغل ولو قليلا حينئذ يرجع إلى ملك الواقف




الخدمات العلمية