الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 33 ] ( وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج ) وكذا إذا صالحهم ; لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به ، ومكة مخصوصة من هذا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها ، ولم يوظف الخراج ( وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج ، وما لم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر ) ; لأن العشر يتعلق بالأرض النامية ، ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج .

التالي السابق


( وكل أرض فتحت عنوة ، وأقر أهلها عليها فهي أرض خراج ، وكذا إذا صالحهم ; لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به ) ; لأن فيه معنى العقوبة للتعلق بالتمكن من الزراعة ، وإن لم يزرع ، وفيه نظر نذكره في آخر الفصل إن شاء الله تعالى . ( ومكة مخصوصة من هذا ) العموم ( فإنها فتحت عنوة ) على ما أسلفناه في باب الغنائم وقسمتها بما لا يشك معه أنها فتحت عنوة ( ولم يوظف عليها خراجا ) ولنخص هذا المكان بحديث زيادة على ما في باب الغنائم . أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه ذكر فتح مكة فقال { أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة ، فبعث الزبير رضي الله عنه إلى إحدى المجبنتين وبعث خالد بن الوليد على المجبنة الأخرى وبعث أبا عبيدة على الجسر ، وأخذوا من بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة ، قال : فنظر إلي وقال : يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله ، قال : اهتف لي بالأنصار فلا يأتيني إلا أنصاري ، فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ووبشت قريش أوباشها ، فقال لهم : ألا ترون إلى أوباش قريش ، وأتباعهم ، ثم قال بيده فضرب بإحداهما على الأخرى وقال : احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا ، قال أبو هريرة : فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل من شاء منهم إلا قتله } الحديث بطوله ، فاضمم هذا إلى ما هناك .

وقد ذكر القتبي ما فتح عنوة وصلحا من البلاد فذكر أن الأهواز وفارس ، وأصبهان فتحت عنوة لعمر رضي الله عنه على يدي أبي موسى وعثمان بن أبي العاص وعتبة بن غزوان ، وكانت أصبهان على يدي أبي موسى خاصة ، وأما خراسان ومرو الروذ فتحتا صلحا في خلافة عثمان إلى يدي عبد الله بن عامر بن كريز ، وأما ما وراءهما فافتتح بعد عثمان على يد سعيد بن عثمان بن عفان لمعاوية صلحا وسمرقند وكش ونسف وبخارى بعد ذلك على يدي المهلب بن أبي صفرة وقتيبة بن مسلم . وأما الري فافتتحها أبو موسى في خلافة عثمان صلحا ، وفي ولايته فتحت طبرستان على يدي سعيد بن العاص صلحا ، ثم فتحها عمرو بن العلاء والطالقان ودنباوند سنة سبع وخمسين ومائة . وأما جرجان ففي خلافة سليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين ، وكرمان وسجستان فتحهما عبد الله بن عامر في خلافة عثمان صلحا . وافتتح الجبل كله عنوة في وقعة جلولاء ، ونهاوند على يدي سعد والنعمان بن مقرن .

وأما الجزيرة ففتحت صلحا على يدي عياض بن غنم والجزيرة ما بين الفرات ودجلة والموصل من الجزيرة ، وأما هجر فأدوا الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا دومة الجندل ، وأما اليمامة فافتتحها أبو بكر رضي الله عنه . وأما الهند فافتتحها القاسم بن محمد الثقفي سنة ثلاث وتسعين .

( قوله : وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار إلخ ) قد علم من عادة المصنف أنه إذا وقعت مخالفة بين ما في القدوري والجامع أو زيادة في الجامع يقول بعد لفظ [ ص: 34 ] القدوري في الجامع الصغير إلى آخره ، وهنا المخالفة ظاهرة ; فإن قول القدوري : كل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج مطلق ، فهو أعم من أن يصل إليها ماء الأنهار أو لا يصل بأن استنبط فيها عين ، ولفظ الجامع قيد خراجيتها بأن يصل إليها ماء الأنهار ، ونحن نقطع أن الأرض التي أقر أهلها عليها لو كانت تسقى بعين أو بماء السماء لم تكن إلا خراجية ; لأن أهلها كفار . والكفار لو انتقلت إليهم أرض عشرية ومعلوم أن العشرية قد تسقى بعين أو بماء السماء لا تبقى على العشرية بل تصير خراجية في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد ، فكيف يبتدأ الكافر بتوظيف العشر ، ثم كونها عشرية عند محمد إذا انتقلت إليه كذلك ، أما في الابتداء فهو أيضا يمنعه ، والعبارة التي نقلها عن الجامع في غاية البيان ليست كما في الهداية . فإنه قال : ولفظ الجامع الصغير : محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال : كل أرض فتحت عنوة بالقتال فصارت أرض خراج ، وكل شيء يصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج ، وكل شيء لم يصل إليها ماء الأنهار فاستخرج فيه عين فهي أرض عشر والأراضي التي أسلم أهلها عليها فهي أرض عشر . فقوله : وكل شيء يصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج عطف على كل أرض فتحت عنوة ، والعطف يوجب المغايرة فيصير المعنى : وكل أرض فتحت عنوة صارت أرض خراج ، وكل أرض لم تفتح عنوة ووصفها أنها يصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج .

وحاصله تقسيم أرض الخراج إلى ما يفتح عنوة ، وإلى ما لم يفتح عنوة لكنها تسقى بماء الأنهار . نعم يجب تقييد الأول بأن يقر أهلها عليها بالضرورة ، وكأن هذا معلوم ، إذ لا يبتدئ المسلم في أول الفتح قط بتوظيف الخراج في الأراضي المقسومة كما يجب تقييد الأنهار فإنها لا تكون خراجية ما لم تكن حولها الأنهار العظام كالنيل والفرات .

والحاصل أن التي فتحت عنوة إن أقر الكفار عليها لا يوظف عليهم إلا الخراج ، ولو سقيت بماء المطر ، وإن قسمت بين المسلمين لا يوظف إلى العشر ، وإن سقيت بماء الأنهار ، وإن كان كذلك فبالضرورة يراد الأرض التي أحياها محي ، فإن التي فتحت عنوة مما يبتدأ فيها التوظيف غير المقسومة ، والمقرر أهلها عليها ليس إلا الموات التي أحييت ، ويصير المعنى كل أرض فتحت عنوة صارت أرض خراج إذا أقام أهلها عليها ، وكل أرض لم تفتح عنوة بل أحياها مسلم إن كان صفتها أنها يصل إليها ماء الأنهار فهي خراجية أو ماء عين ونحوه فعشرية ، وهذا قول محمد ، وهو قول أبي حنيفة ، ولو شرحه هكذا استغنى به عن ذكر المسألة التي تليه فإنها هي . وحاصلها أن محمدا قال فيمن أحيا أرضا ميتة ببئر حفرها أو عين استخرجها أو ماء دجلة والفرات أو باقي الأنهار العظام التي لا يملكها أحد أو بالمطر فهي عشرية ، وإن أحياها بماء الأنهار التي شقتها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر يزدجرد وهو ملك من العجم فهي خراجية ; لأن الاعتبار في مثله للماء ; لأنه السبب لنماء الأرض ; ولأنه لا يمكن توظيف الخراج على المسلم ابتداء كرها فيعتبر السقي ; لأن السقي بماء الخراج دلالة على التزامه فتصير خراجية عليه .




الخدمات العلمية