الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1332 151 - حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا شعبة ، عن ابن عثمان بن عبد الله بن موهب ، [ ص: 239 ] عن موسى بن طلحة ، عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة . قال : ماله ؟ ماله ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرب ماله ؟ تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله " وتؤتي الزكاة " ، فإنها ذكرت مقارنة للصلاة التي ذكرت مقارنة للتوحيد ، فإن قوله " تعبد الله ولا تشرك به شيئا " عبارة عن التوحيد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم خمسة ; الأول : حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة ، أبو عمر الحوضي . الثاني : شعبة بن الحجاج . الثالث : محمد بن عثمان بن عبد الله بن موهب - بفتح الميم وسكون الواو وفتح الهاء وبالباء الموحدة . الرابع : موسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي ، مات سنة أربع ومائة . الخامس : أبو أيوب الأنصاري ، واسمه خالد بن زيد بن كليب ، يقول في حديثه : إن رجلا . وقال ابن قتيبة : إن هذا الرجل هو أبو أيوب الراوي . ونسبه بعضهم إلى الغلط وهو غير موجه ، إذ لا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له ، فإن قلت : هذا يبعد هاهنا ; لأنه جاء في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه التي تأتي بعد بأنه أعرابي - قلت : أجيب بالمنع لعدم المانع من تعدد القصة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده وأنه كوفي وشعبة واسطي وابن عثمان وموسى مدنيان ، وفيه ابن مختلف فيه هل هو محمد بن عثمان أو عمرو بن عثمان وفي بعض النسخ حدثنا شعبة عن محمد بن عثمان ، ونذكر عن قريب وجه ذلك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن أبي الوليد عن شعبة ، وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن عمرو بن عثمان عنه به ، وعن محمد بن حاتم وعبد الرحمن بن نصر كلاهما عن بهز عن شعبة عن محمد بن عثمان وأبيه عثمان به ، وعن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عنه به . وأخرجه النسائي في الصلاة وفي العلم عن محمد بن عثمان بن أبي صفوان عن بهز به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( يدخلني ) الجزم فيه على جواب الأمر غير مستقيم ; لأنه إذا جعل جواب الأمر يبقى قوله " بعمل " غير موصوف ، والنكرة غير الموصوفة لا تفيد ، كذا قاله صاحب المظهر شارح المصابيح . قلت : التنكير في " بعمل " للتفخيم أو التنويع ; أي بعمل عظيم أو معتبر في الشرع ، أو نقول إذا صح الجزم فيه إن جزاء الشرط محذوف تقديره أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة ، فالجملة الشرطية بأسرها صفة لعمل ، فافهم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ماله ؟ ماله ؟ ) ، كلمة " ما " للاستفهام ، والتكرار للتأكيد ، قاله ابن بطال . ويجوز أن تكون بمعنى : أي شيء جرى له ؟

                                                                                                                                                                                  قوله ( أرب ) ، اختلفوا في هيئة هذه الكلمة وفي معناها أيضا ، أما في الأول فقيل " أرب " بفتح الهمزة وكسر الراء وتنوين الباء على وزن حذر ، وقال ابن قرقول : يروى " أرب ماله " اسم فاعل مثل حذر . قلت : لا يسمى مثل هذا اسم فاعل ، بل هو صفة مشبهة .

                                                                                                                                                                                  وقيل " أرب " بفتح الهمزة وفتح الراء أيضا وتنوين الباء .

                                                                                                                                                                                  وقيل " أرب " بفتح الهمزة وفتح الراء وفتح الباء على صيغة الماضي ، وروي هذا عن أبي ذر .

                                                                                                                                                                                  وقيل على صيغة الماضي ولكنه بكسر الراء .

                                                                                                                                                                                  فهذه أربعة أقوال ، وأما اختلافهم في المعنى ففي الوجه الأول معناه صاحب الحاجة ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أرب ، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حريص في سؤاله قال " ماله ؟ " متعجبا من حرصه بطريق الاستفهام . وفي الوجه الثاني معناه له أرب ; أي حاجة ، فيكون ارتفاعه على أنه مبتدأ خبره محذوف . وفي الوجه الثالث والرابع اللذين بصورة الماضي على اختلاف حركة عين الفعل معناه احتاج فسأل عن حاجته ، وقال النضر بن شميل : يقال أرب الرجل في الأمر إذا بلغ فيه جهده . وقال ابن الأنباري : سقط آرابه أي أعضاؤه ، ومفرده الأرب هذه كلمة لا يراد بها وقوع الأمر ، كما تقول تربت يداك وإنما تستعمل عند التعجب ، وقيل لما رأى الرجل يزاحم دعا عليه دعاء لا يستجاب في المدعو عليه . وقال الأصمعي : أرب الرجل في الشيء إذا صار ماهرا فيه ، فيكون المعنى التعجب من حسن فطنته والتهدي إلى موضع حاجته ، فلذلك قال " ماله ؟ " بالاستفهام .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 240 ] وقال الكرماني : وأما ما رواه بعضهم بكسر الراء وتنوين الباء ومعناه هو أرب أي صادق فطن فليس بمحفوظ عند أهل الحديث ، وفي رواية " قال الناس : ماله ؟ ماله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرب ماله ؟ ، و" ما " صلة ; أي حاجة ما أو أمر ماله ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : لهذه المادة معان كثيرة : الإرب - بكسر الهمزة وسكون الراء - العضو ، كما في الحديث : أمرت أن أسجد على سبعة آراب . وهو جمع إرب وجاء على أرؤب .

                                                                                                                                                                                  والإرب أيضا الدهاء ، ويقال هو ذو إرب أي ذو عقل ، ومنه الأريب وهو العاقل .

                                                                                                                                                                                  والإرب أيضا الحاجة ، وفيه لغات : أرب وأربة وأرب ومأربة ، تقول منه أرب الرجل بالكسر يأرب بالفتح أربا ، ويقال أرب الدهر إذا اشتد ، وأرب الرجل إذا تساقطت أعضاؤه ، وأرب بالشيء درب به وصار بصيرا فيه فهو أرب .

                                                                                                                                                                                  والأربة بالضم العقدة ، والإربة بالكسر المعتوه ، قال تعالى : غير أولي الإربة قال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وتأريب العقدة إحكامها ، ومنه يقال أرب عقدتك أي أحكمها ، وتأريب الشيء أيضا توفيره ، وكل موفر مؤرب . وقال الأصمعي : التأرب التشدد في الشيء ، وأربت على القوم أي فزت عليهم ، والأرب بالضم صغار الغنم حين تولد .

                                                                                                                                                                                  قوله ( تعبد الله ) ; أي توحده ، وفسره بقوله " ولا تشرك به شيئا " ، قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليوحدوني ، والتحقيق هنا أن العبادة الطاعة مع خضوع فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى والإقرار بوحدانيته ، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وعطف ما بعدها عليها لإدخالها في الإسلام وأنها لم تكن دخلت في العبادة ، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها ، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب عطف الخاص على العام تنبيها على شرفه ومزيته ، وإنما ذكر قوله " ولا تشرك به شيئا " بعد العبادة لأن الكفار كانوا يعبدونه سبحانه في الصورة ويعبدون معه أوثانا يزعمون أنها شركاء ، فنفى هذا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وتقيم الصلاة المكتوبة ) اقتباس من قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد جاء في أحاديث وصفها بالمكتوبة كقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " ، و" أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل " ، و"خمس صلوات كتبهن الله " . ومعنى إقامة الصلاة إدامتها والمحافظة عليها ، وقيل إتمامها على وجهها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وتصل الرحم ) من وصل يصل صلة ، وصلة الرحم مشاركة ذوي القرابة في الخيرات ، وإنما خص هذا من بين سائر واجبات الدين نظرا إلى حال السائل كأنه كان قطاعا للرحم مبيحا لذلك ، فأمره به لأنه هو المهم بالنسبة إليه . وقال ابن الجوزي : فإن قيل : قد علم بسؤال الرجل أن له حاجة ، فما الفائدة في قوله " له حاجة " ؟ فالجواب أن المعنى له حاجة مهمة مفيدة جاءت به ، وقال القرطبي : إنما لم يخبرهم بالتطوع لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم للتخفيف ولئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة ، فتركهم إلى أن تنشرح صدورهم لها فتسهل عليهم .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية