الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1375 ( وحدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال : حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها ولا تتسع ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق آخر أتم من الأول ، رواه عن أبي اليمان الحكم بن نافع ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد بالزاي والنون ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : " مثل البخيل والمنفق " .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية مسلم : " مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جنتان أو جبتان " ، وقال القاضي عياض : وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة تصحيف وتحريف وتقديم وتأخير ، فمنه مثل المنفق والمتصدق ، ومنه كمثل رجل وصوابه رجلين عليهما جبتان ، ومنه قوله " جبتان أو جنتان " بالنون بالشك ، والصواب : جنتان بالنون بلا شك ، قوله " من ثديهما " بضم الثاء المثلثة وكسر الدال كذا في رواية أبي الحسن جمع ثدي ، نحو الفلوس والفلس فعلى هذا أصله ثدوي ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، فصار ثدي بضم الدال ، ثم أبدلت الضمة كسرة لأجل الياء ، وقال ابن التين : ويصح نصب الثاء .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية " ثدييهما " بالتثنية .

                                                                                                                                                                                  وفي المجمل : الثدي بالفتح للمرأة ، والجمع الثدي يذكر ، ويؤنث .

                                                                                                                                                                                  وفي المخصص والجمع أثد ، وقال الجوهري : الثدي للرجل والمرأة ، والجمع أثد وثدي على فعول ، وثدي بكسر الثاء ، قوله " إلى تراقيهما " جمع ترقوة ، ويقال : الترائق أيضا على القلب ، وقال ثابت في خلق الإنسان : الترقوتان هما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر ، وهي اللهزمة التي بينهما .

                                                                                                                                                                                  وفي المخصص : هي من رقى يرقى .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : لم لا تقلب الواو ألفا ؟ ( قلت ) : لئلا يختل البناء كما في سرو .

                                                                                                                                                                                  وفي الصحاح : لا تقل ترقوة بالضم ، قوله " إلا سبغت " ، أي : امتدت وغطت . وقيل : كملت وتمت ، وضبطه الأصيلي بضم التاء ، وهو شيء لا يعرف ، قوله : " أو وفرت " شك من الراوي من الوفور بمعنى كملت .

                                                                                                                                                                                  وفي التلويح : سبغت أو مرت على جلد ، كذا في النسخ مرت ، وقال النووي : وقيل : صوابه يعني في مسلم مدت بالدال ، بمعنى سبغت كما في الحديث الآخر " انبسطت " .

                                                                                                                                                                                  وفي التلويح ، وفي بعض نسخ البخاري : " مادت " بدال مخففة من ماد إذا مال ، ورواه بعضهم : مارت ، ومعناه سالت عليه ، وامتدت . قال الأزهري : معناه ترددت وذهبت وجاءت بكمالها ، قوله " حتى تجن " بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم ، وتشديد النون هذا في رواية الحميدي ، ومعناه : حتى تستر من أجن إذا ستر ، وكذلك جن بمعناه ، ويروى حتى يخفى .

                                                                                                                                                                                  وقال [ ص: 309 ] ابن التين : رواه أبو سليمان حتى تجر بنانه ، وقال النووي : ورواه بعضهم : يحز بحاء وزاي ، وهو وهم ، والصواب : تجن بجيم ونون ، قوله : " بنانه " ، أي : أصابعه ، وهو رواية الجمهور كما في الحديث الآخر أنامله ، ويروى ثيابه بثاء مثلثة ، وهو وهم وقد وقع في رواية الحسن بن مسلم : حتى تغشى بالغين والشين المعجمتين ، قوله : " وتعفو أثره " ، أي : يمحو أثره ، وهو يجيء لازما ومتعديا ، فهنا متعد ; لأنه نصب أثره ، وأثره بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وبكسر الهمزة وسكون الثاء ، معناه : تمحو أثر مشيه بسبوغها وكمالها ، وقال الداودي : يعفى أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه ; لأن المنفق إذا أنفق طال ذلك اللباس الذي عليه حتى يجره بالأرض ، قوله : " لزقت " ، أي : التصقت .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية مسلم : انقبضت .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية همام : عضت كل حلقة مكانها ، وفي رواية سفيان عند مسلم : قلصت ، وكذا في رواية الحسن بن مسلم عند البخاري ، وزعم ابن التين أن فيه إشارة إلى أن البخيل يكوى بالنار يوم القيامة . قوله " فهو يوسعها ولا تتسع " .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية عند مسلم ، قال أبو هريرة : فهو يوسعها ، ولا يتسع .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : هذا يوم أنه مدرج ؟ ( قلت ) : ليس كذلك ، وقد وقع التصريح برفع هذه الجملة في طريق طاوس ، عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية ابن طاوس عند البخاري في الجهاد ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : فيجتهدان يوسعها ولا تتسع .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية لمسلم : فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية الحسن بن مسلم عندهما : فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه هكذا في جيبه ، فلو رأيته يوسعها ، ولا تتسع ، وعند أحمد من طريق ابن إسحاق ، عن أبي الزناد في هذا الحديث : وأما البخيل فإنها لا تزداد عليه إلا استحكاما ، وهذا بالمعنى ، وقال الخطابي : هذا مثل ضربه - صلى الله عليه وسلم - للجواد والبخيل ، وشبههما برجلين ، أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستجن بها ، والدرع أول ما يلبس ، إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميه ، ويرسل ذيلها على أسفل بدنه ، فيستمر سفلا ، فجعل - صلى الله عليه وسلم - مثل المنفق مثل من لبس درعا سابغة ، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه وحصنته ، وجعل البخيل كرجل يداه مغلولتان ما بين دون صدره ، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينها وبين أن تمر سفلا على البدن ، واجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته ، فكانت ثقلا ووبالا عليه من غير وقاية له ، وتحصين لبدنه ، وحاصله أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره ، وطاوعت يداه ، فامتدتا بالعطاء ، وأن البخيل يضيق صدره وتنقبض يده عن الإنفاق . وقيل : ضرب المثل بهما ; لأن المنفق يستره الله بنفقته ، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجبة لابسها ، والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه فيبقى مكشوفا ظاهر العورة مفتضحا في الدارين ، وقال ابن بطال : يريد أن المنفق إذا أنفق كفرت الصدقة ذنوبه ومحتها ، كما أن الجبة إذا أسبغت عليه سترته ووقته ، والبخيل لا تطاوعه نفسه على البذل ، فيبقى غير مكفر عنه الآثام ، كما أن الجبة تبقي من بدنه ما لا تستره فيكون معرض الآفات ، وقال الطيبي : شبه السخي إذا قصد التصدق يسهل عليه بمن عليه الجبة ، ويده تحتها ، فإذا أراد أن يخرجها منها يسهل عليه ، والبخيل على عكسه ، والأسلوب من التشبيه المفرق ، قال : وقيد المشبه به بالحديد إعلاما بأن القبض والشدة جبلة الإنسان ، وأوقع المتصدق موضع السخي مع أن مقابل البخيل هو السخي لا المتصدق ، إشعارا بأن السخاوة هي ما أمر به الشرع ، وندب إليه من الإنفاق إلا ما يتعاناه المبذرون ، وقال المهلب : المراد أن الله يسر المنفق في الدنيا وفي الآخرة بخلاف البخيل ، فإنه يفضحه ، ومعنى تعفو أثره : تمحو خطاياه ، واعترض عليه القاضي عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن . وقيل : هو تمثيل لنماء المال بالصدقة ، والبخل بضده . وقيل : تمثيل لكثرة الجود والبخل وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء ، وتعود ذلك ، فإذا أمسك صار ذلك عادة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية