الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1403 74 - (حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عروة بن [ ص: 52 ] الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" لأن المراد من اليد العليا على قول: هي المتعففة، وإن كان المشهور هي المنفقة، وقد تقدم الكلام فيه في "باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم سبعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبدان هو عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، وعبدان لقبه.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الله بن المبارك المروزي.

                                                                                                                                                                                  الثالث: يونس بن يزيد الأيلي.

                                                                                                                                                                                  الرابع: محمد بن مسلم الزهري المدني.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عروة بن الزبير بن العوام المدني.

                                                                                                                                                                                  السادس: سعيد بن المسيب المدني.

                                                                                                                                                                                  السابع: حكيم -بفتح الحاء- بن حزام -بكسر الحاء وبالزاي المخففة- وقد مر عن قريب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه العنعنة في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن شيخه مذكور بلقبه.

                                                                                                                                                                                  وفيه اثنان مذكوران مجردين.

                                                                                                                                                                                  وفيه أحدهم مذكور بنسبته إلى قبيلته ويروي عن اثنين.

                                                                                                                                                                                  وفيه ثلاثة من التابعين وهم: الزهري، وعروة، وسعيد بن المسيب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره)

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الوصايا، وفي الخمس: عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي. وفي الرقاق: عن علي بن عبد الله، عن سفيان كلاهما عن الزهري.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن محمد الناقد، كلاهما عن سفيان به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي في الزكاة عن قتيبة عن سفيان به، وعن الربيع بن سليمان، وعن أحمد بن سليمان، وأعاده في الرقاق عن الربيع بن سليمان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "خضرة" التأنيث إما باعتبار الأنواع أو الصورة أو تقديره كالفاكهة الخضرة الحلوة، شبه المال في الرغبة فيه بها، فإن الأخضر مرغوب من حيث النظر، والحلو من حيث الذوق، فإذا اجتمعا زادا في الرغبة.

                                                                                                                                                                                  حاصله أن التشبيه في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشد.

                                                                                                                                                                                  وفيه أيضا إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فمن أخذه بسخاوة نفس" أي بغير شره ولا إلحاح. وفي رواية: بطيب نفس.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: السخاوة إنما هي في الإعطاء لا في الأخذ.

                                                                                                                                                                                  قلت: السخاوة في الأصل السهولة والسعة. قال القاضي: فيه احتمالان أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ، أي: من أخذه بغير حرص وطمع وإشراف عليه. والثاني: إلى الدافع، أي: من أخذه ممن يدفعه منشرحا بدفعه طيب النفس له.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بإشراف نفس" الإشراف على الشيء الاطلاع عليه والتعرض له.

                                                                                                                                                                                  وقيل: معنى "إشراف نفس" أن المسؤول يعطيه عن تكره.

                                                                                                                                                                                  وقيل: يريد به شدة حرص السائل وإشرافه على المسألة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لم يبارك له فيه" الضمير في "له" يرجع إلى الآخذ، وفي "فيه" إلى المعطى بفتح الطاء، ومعناه: إذ لم يمنع نفسه المسألة ولم يصن ماء وجهه فلم يبارك له فيما أخذ وأنفق.

                                                                                                                                                                                  قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" أي: كمن به الجوع الكاذب، وقد يسمى بجوع الكلب، كلما ازداد أكلا ازداد جوعا؛ لأنه يأكل من سقم، كلما أكل ازداد سقما ولا يجد شبعا، ويزعم أهل الطب أن ذلك من غلبة السوداء، ويسمونها الشهوة الكلبية، وهي صفة لمن يأكل ولا يشبع.

                                                                                                                                                                                  قلت: [ ص: 53 ] الظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها كلما ينزل الطعام في معدته يحترق، وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه.

                                                                                                                                                                                  وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلا من أهل البادية أكل جملا وامرأته أكلت فصيلا، ثم أراد أن يجامعها، فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل، كيف يكون ذاك؟. قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" قد مر الكلام فيه مستقصى في: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى".

                                                                                                                                                                                  قوله: "لا أرزأ" بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي وبالهمزة، معناه: لا أنقص ماله بالطلب، وفي النهاية: ما رزأته أي ما نقصته، وفي رواية لإسحاق: قلت: "فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب".

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا معنى قوله: "بعدك" الخطاب للنبي، ويحتمل أن يكون المعنى "غيرك".

                                                                                                                                                                                  قال الكرماني: فإن قلت: لم امتنع من الأخذ مطلقا وهو مبارك إذا كان بسعة الصدر مع عدم الإشراف؟ قلت: مبالغة في الاحتراز؛ إذ مقتضى الجبلة الإشراف والحرص، والنفس سراقة والعرق دساس، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأبى أن يقبل منه" أي: فامتنع حكيم أن يقبل عطاء من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني.

                                                                                                                                                                                  وجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "لا أرزأ أحدا بعدك" حتى روي في رواية: "ولا منك يا رسول الله، قال: ولا مني؟".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إني أشهدكم" إنما أشهد عمر رضي الله تعالى عنه على حكيم؛ لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأن أحدا لا يستحق شيئا من بيت المال بعد أن يعطيه الإمام إياه. وفي التوضيح: وأما قبل ذلك فليس بمستحق له، ولو كان مستحقا له لقضى عمر على حكيم بأخذه ذلك، يدل عليه قول الله تعالى حين ذكر قسم الصدقات وفي أي الأقسام يقسم أيضا: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه الآية، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره. وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال مشددا على غير المرضى من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين، والسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك أن من سرق بيت المال أنه يقطع، وزنى بجارية من الفيء أنه يحد، ولو استحق في بيت المال أو في الفيء شيئا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له لكانت شبهة تدرأ الحد عنه.

                                                                                                                                                                                  قلت: جمهور الأمة على أن للمسلمين حقا في بيت المال والفيء، ولكن الإمام يقسمه على اجتهاده، فعلى هذا لا يجب القطع ولا الحد للشبهة، وسيجيء تحقيقه في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى توفي" زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق معمر بن عبد الله بن عروة مرسلا أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من إمارة معاوية، وزاد ابن إسحاق أيضا في مسنده من طريق معمر عن الزهري: فمات حين مات وأنه لمن أكثر قريش مالا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه ما قال المهلب: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وموعظته وأمره بالتعفف وترك الحرص.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة؛ لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن من كان له حق عند أحد فإنه يجب عليه أخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقه إلا ببسط اليد فلا يجبر على أخذه.

                                                                                                                                                                                  وفيه ما قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ؛ فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سخت بكذا أي جادت، وسخت عن كذا أي لم تلتفت إليه.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة.

                                                                                                                                                                                  وفيه ضرب المثل بما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون بالأكل، إنما يؤكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم.

                                                                                                                                                                                  وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع؛ لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه حاجته.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز تكرر السؤال ثلاثا، وجواز المنع في الرابعة.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية