الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 410 ] باب رضاع الخنثى مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " إن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل نكح امرأة ولم ينزل فنكحه رجل فإذا نزل له لبن فأرضع به صبيا لم يكن رضاعا يحرم ، وإن كان الأغلب أنه امرأة فنزل له لبن من نكاح أو غيره فأرضع صبيا حرم ، وإن كان مشكلا فله أن ينكح بأيهما شاء ، وبأيهما نكح به أولا أجزته ولم أجعل له أن ينكح بالآخر " . قال الماوردي : قد تكرر في كتابنا هذا ذكر الخنثى ، وذكرنا في كل موضع منه من أحكامه طرفا . والأصل فيه أن الله تعالى خلق الحيوان ذكورا وإناثا جمع بينهما في الشبه ليأنس الذكر بالإناث ، وفرق بينهما في آلة التناسل فجعل للرجل ذكرا وللمرأة فرجا ليجتمعا على الغشيان بما ركبه في طباعهما من شهوة الاجتماع فيمتزج البنيان في قرار الرحم ، وهو محل العلوق ليحفظ بالتناسل بقاء الخلق فمن أفرده بالذكر كان رجلا ، ومن أفرده بالفرج كان امرأة ، ومن جمع هذين العضوين : الذكر والفرج فهو الخنثى ، سمي بذلك لاشتراك الشبهين فيه ، مأخوذ من قولهم : تخنث الطعام والشراب إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود وشاركه طعم غيره ، ورجل مخنث لأنه شبه بالإناث في أقواله وأفعاله ، فإذا كان كذلك فقد جعل لكل واحد من عضوي الذكر والفرج منفعتين عامة وخاصة فالمنفعة العامة هي البول والمنفعة الخاصة هي غشيان التناسل ، فإذا اجتمع العضوان في الشخص الواحد فكان له ذكر وفرج لم يجز أن يكون ذكرا وأنثى ، ولم يجز أن يكون لا ذكرا ولا أنثى ، ولم يجز أن يكون بعضه ذكرا وبعضه أنثى ؛ لما في ذلك من خرق العادة التي ركبها في خلقه ، وحفظ بها تناسل العالم ووجب أن يكون إما ذكرا وإما أنثى ، وقد اشتبه الأمر في الجمع بين الذكر الدال على كونه رجلا ، والفرج الدال على كونه امرأة ، فوجب أن يستدل عليه بالغالب الظاهر من منافعهما ، وهو البول فإن بال من الذكر كان رجلا وكان الفرج عضوا زائدا ، وأجري عليه حكم الرجال في جميع أحواله ، وإن بال من الفرج كان امرأة وكان الذكر عضوا زائدا ، وأجري عليها حكم النساء في جميع أحوالها ؛ لأن وجود منفعة العضو فيه دليل على أنه مخلوق له ، ولذلك : لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غلام ميت حمل إليه من الأنصار له ذكر وفرج فقال : ورثوه من حيث يبول وهذا الخنثى غير مشكل ، وإن كان [ ص: 411 ] يبول منهما فيخرج بوله من ذكره ومن فرجه ، وجب أن يراعى أسبقهما بولا لقوته فيحكم به فإن استويا في السبق وجب أن يراعى آخرهما انقطاعا لغلبته فيحكم به فإن استويا في السبق والخروج فهو مشكل . وقال أبو حنيفة : يعتبر أكثرهما بولا فيحكم به ، وحكاه أبو القاسم الداركي على المذهب ، وأنكره سائر أصحابنا وجعلوه مشكلا فلو سبق بوله من أحدهما ، وتأخر انقطاعه من الآخر بقدر السبق ففيه وجهان : أحدهما : يحكم بالسبق . والثاني : قد استويا ، ويكون مشكلا ، فلو سبق بوله من أحدهما ، وكان قليلا وتأخر من الآخر ، وكان كثيرا ففيه ثلاثة أوجه : أحدهما : يحكم بالسابق منهما . والثاني : يحكم بأكثرهما . والثالث : يكون مشكلا ، فلو كان يبول من أحدهما تارة ، ومن الآخر تارة ، أو كان يسبق أحدهما تارة ويتأخر تارة ، اعتبر أكثر الحالتين منهما ، فإن استويا فهو مشكل . وقال بعض أصحابنا : اعتبر صفة البول فإن زرق فهو ذكر وإن رشش فهو أنثى . وأنكر سائر أصحابنا هذا الاعتبار وجعلوه مشكلا ، فإذا عدم البيان من طريق المبال الذي هو الأعم من منفعتي العضوين وجب الرجوع إلى اعتبار المنفعة الخاصة ، وهي المني ، وذلك يكون عند البلوغ فإن أمنى من ذكره فهو رجل ، وإن أمنى من فرجه فهي امرأة ، وإن أمنى منهما فلا بيان فيه . واختلف أصحابنا هل يعتبر بالحيض أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : يعتبر بالحيض ؛ فإن حاض فهو أنثى ، وإن لم يحض فهو ذكر . والوجه الثاني : لا اعتبار بالحيض ، وإن اعتبر المني ؛ لأنهما يشتركان في المني ، ويختلفان في مخرجه فجاز أن يكون معتبرا كما يشتركان في البول ، ويختلفان في مخرجه ولا يشتركان في الحيض ، وقد يجوز أن يكون الدم ليس بحيض ، فإذا فات البيان من الذكر والفرج باعتبار البول والمني فلا اعتبار بعدهما بشيء من أعضاء الجسد وصفاته فلا تكون في اللحية دليل ؛ لأنها قد تكون لبعض النساء ، ولا تكون في الثدي واللبن ؛ لأنه قد يكون لبعض الرجال . وروي عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أنه اعتبر بعدد الأضلاع ؛ فإن أضلاع المرأة متساوية من الجانبين ، وأضلاع الرجل تنقص من الجانب الأيسر ، ضلعا لأجل ما حكي أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر ، وبهذا قال حسن البصري وحكاه [ ص: 412 ] ابن أبي هريرة عن بعض أصحابنا ، ومذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أنه لا اعتبار بعدد الأضلاع لأمرين : أحدهما : أنه لو كان معتبرا لقدم على اعتبار المبال ؛ لأنه أصل ثابت في الخلقة . والثاني : ما حكي عن أصحاب التشريح وما توجد شواهده في البهائم بعد الذبح أن أضلاع الذكر والأنثى متساوية في اليمنى واليسرى ، وأنها أربعة وعشرون ضلعا من الجانبين وفي كل جانب منها اثنا عشر ضلعا خمسة منها تتلاقى ، وسبعة منها أضلاع الخلف وهي التي لا تتلاقى ، فإذا لم يزل إشكاله بالأمارات الظاهرة لتكافؤ دلائلها وجب أن يرجع إلى الأمارات الباطنة المركوزة في طبعه ، فإن الذكر مطبوع على ما ركبه الله تعالى فيه من شهوة الأنثى والأنثى مطبوعة على ما ركبه الله تعالى فيها من شهوة الرجال ، ليحفظ بالشهوة الغريزية بقاء التناسل . ومثاله ما يقوله في لحوق الأنساب عند الاشتراك والاشتباه ، وإنما يرجع بالقافة إلى الأمارات الظاهرة في الجسد فإذا عدم البيان منها رجعنا إلى الأمارات الباطنة في الميل بالطبع المركوز في الخلقة إلى المتمازجين في الانتساب فيؤخذ بالانتساب إلى من مال طبعه إليه ؛ كذلك الخنثى ، وهذه الشهوة تستكمل بالبلوغ فلا اعتبار بها قبل البلوغ والذي يكون به الخنثى المشكل بالغا قد ذكرناه في باب الصلاة فإذا بلغ اعتبرت حينئذ شهوته فيالميل إلى أحد الجنسين فإن مالت شهوته إلى النساء حكم بأنه رجل وإن مال إلى شهوة الرجال حكم بأنه امرأة ، ولم يقبل رجوعه كما أجري عليه من حكم أحد الجنسين إلا أن تظهر من دلائل أصل الخلقة ما تقتضيه ، وذلك بأن يرجع إلى شهوته عند عدم البيان في المبال لتساويهما ، ويحكم بميله إلى الرجال أنه امرأة ثم ينقطع بوله من الفرج ويستدر من الذكر ، فيحكم بأنه رجل بعد أن جرى حكم النساء عليه ؛ لأن الأمارات الظاهرة أقوى بيانا من الأمارات الباطنة ، فإن كان قد تزوج رجلا فسخ نكاحه وزوج امرأة إن شاء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية