الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ في عموم مثل قوله : { خذ من أموالهم صدقة } ]

                                                      الجمهور أن مثل قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } قد يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال ، فكان مخرج الآية عاما على الأموال ، وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون [ ص: 237 ] بعض ، فدلت السنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض .

                                                      وقال في موضع آخر : وهو الذي نص عليه الشافعي في كتاب " الرسالة " فقال عقب ذكر هذه الآية : إلا أن يختص بدلالة من السنة ، ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء ، وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض . ونقل عن نصه أيضا في " البويطي " نحوه ، ولهذا احتج بها أصحابنا على وجوب الزكاة في مال التجارة ، وعلى أخذ الشاة الصغيرة من الصغار ، واللئيمة من اللئام ونحوه . لكنه في موضع آخر جعلها من المجمل المبين بالسنة ، كقوله تعالى : { وآتوا الزكاة } . وذهب الكرخي من الحنفية إلى أنه يقتضي أخذ صدقة واحدة ونوع واحد ، ورجحه ابن الحاجب ، لأن " من " للبعض المطلق ، والواحدة من الجميع يصدق عليها . وتوقف الآمدي فقال في آخر المسألة : وبالجملة فالمسألة محتملة ، ومأخذ الكرخي دقيق . كذا نقله ابن برهان وغيره عن الكرخي ، والذي رأيته في كتاب أبي بكر الرازي ، عن شيخه أبي الحسن الكرخي أنه ذهب إلى أنه يقتضي عموم وجوب الحق في سائر أصناف الأموال واختاره أبو بكر أيضا ، وهو الصواب في النقل عنه .

                                                      وحجة الجمهور أن الأموال جمع مضاف ، وهو من صيغ العموم ، والمعنى : خذ من كل نوع من أموالهم صدقة : واعترض المخالف بأن مثل [ ص: 238 ] هذه الصيغة لا تقتضي التعميم ، لأجل " من " وأجاب القرافي بأنه لا بد من تعلقها بمحذوف صفة الصدقة ، والتقدير : كائنة أو مأخوذة من أموالهم ، بل من بعض أموالهم ، وهو خصوص ، مع أن اللفظ عام ، لأن معنى كائنة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه ، وهذا هو بيان العموم .

                                                      هذا هو الذي لحظه الشافعي .

                                                      وقال بعضهم : الجار والمجرور الذي هو " من أموالهم " إن كان متعلقا بقوله : " خذ " ، فالمتجه قول الكرخي ، لأن التعلق مطلق ، والصدقة نكرة في سياق الإثبات ، فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد ، وإن كان متعلقا بقوله : " صدقة " ، فيقوى قول الجمهور ، لأن الصدقة إنما تكون من أموالهم إذا كانت من كل نوع من أموالهم ، وفيه نظر ، لأنه إذا كان المعتبر دلالة العموم في أموالهم وأنها كلية ، فالواجب حينئذ من كل نوع من أنواع الأموال عملا بمقتضى العموم ، ولا نظر إلى تنكير صدقة ، لأنها مضافة إلى الأموال سواء قيل إنها متعلقة بخذ أو بصدقة ، وإن اعتبر لفظ " صدقة " وأنه نكرة في سياق الإثبات فلا عموم له على الوجهين أيضا . تنبيهات

                                                      أحدها : يترتب على هذا الخلاف أن كل صنف اختلف في وجوب الزكاة فيه فللقائل بالعموم الاحتجاج به ، وهو نظير الخلاف في قوله : ( وآتوا الزكاة ) في أنها عامة أو مجملة .

                                                      الثاني : هل الزكاة اسم للعين أو الفعل ؟ خلاف حكاه الجاجرمي : في رسالته في الأصول ، فقيل اسم للعين ، كقوله تعالى : [ ص: 239 ] { خذ من أموالهم صدقة } وقوله عليه الصلاة والسلام : { تؤخذ من أغنيائهم } ، والمراد الزكاة . ومحل الأخذ هو العين لا الفعل ، غير أن اسم الزكاة على الفعل بطريق إطلاق اسم المحل على الحال ، وقيل : اسم للفعل كقوله تعالى : { والذين هم للزكاة فاعلون } والإنسان إنما يصير فاعل الفعل لا لمحل الفعل ، ولأنه عليه السلام جعل الزكاة عبادة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية