الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التنبيه الثاني

الكلام على الإيمان والإسلام هل هما شيء واحد ، أو شيئان ؟ قد ثبت في القرآن إسلام بلا إيمان في قوله - تعالى - : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رهطا - وفي رواية : قسم قسما - وترك فيهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ، أو مسلما " أقولها ثلاثا ويرددها علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا ، ثم قال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار . فهذا الإسلام الذي نفى الله عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم هل هو إسلام يثابون عليه أم من جنس إسلام المنافقين ؟ فيه قولان مشهوران للسلف ، والخلف : أحدهما : أنه إسلام يثابون عليه ويخرجهم من الكفر والنفاق ، وهذا يروى عن الحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر وهو قول حماد بن زيد ، والإمام أحمد بن حنبل وسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي وكثير من أهل الحديث والسنن والحقائق . الثاني : أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل مثل إسلام المنافقين ، قالوا : وهؤلاء كفار فإن الإيمان لم يدخل قلوبهم ومن لم يدخل الإيمان [ ص: 427 ] في قلبه فهو كافر ، وهذا اختيار الإمام البخاري ومحمد بن نصر المروزي . قال شيخ الإسلام : والسلف مختلفون في ذلك ، وحقيقة الأمر أن من لم يكن من المؤمنين يقال فيه إنه مسلم ، ومعه إيمان يمنعه من الخلود في النار ، وهذا متفق عليه بين أهل السنة لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان ؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه فقيل يقال : إنه مسلم ولا يقال مؤمن ، وقيل بل يقال مؤمن . قال : والتحقيق أنه يقال مؤمن ناقص الإيمان مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، فلا يعطى الاسم المطلق ، ولا يسلب مطلق الاسم . قال : وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف ، المؤمن حقا ، والمنافق في أحكامه الظاهرة ، وإن كان المنافق في الآخرة في الدرك الأسفل من النار ، وهو في الباطن ينفى عنه الإسلام والإيمان وفي الظاهر يثبتان له ظاهرا . ويدخل فيه الذين أسلموا ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم لكن معهم جزء منه ، وإسلام يثابون عليه ثم قد يكونوا مفرطين فيما فرض عليهم وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر لكن يعاقبون على ترك المفروضات وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم فإنهم قالوا آمنا ، من غير قيام منهم بما أمروا به باطنا وظاهرا ، فلا دخلت حقيقة الإيمان إلى قلوبهم ولا جاهدوا وقد كان دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر ، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام بل هم مسلمون ولكن بين السلف فيهم نزاع لفظي هل يقال إنهم مؤمنون ؟ قال الشالنجي : سألت الإمام أحمد عن الإيمان والإسلام ، فقال : الإيمان قول وعمل ، والإسلام إقرار .

وبه قال أبو خيثمة . وقال ابن أبي شيبة : لا يكون إسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام . قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : الإمام أحمد - رضي الله عنه - لم يرد عنه قط أنه سلب من يقال إنه مسلم - يعني من زنى وسرق وشرب الخمر ونحوهم - جميع الإيمان ، فلم يبق معه شيء كما تقوله الخوارج والمعتزلة ، فإن الإمام أحمد قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " وليس هذا - [ ص: 428 ] يعني سلبهم اسم الإيمان جميعه - قوله ولا قول أحد من أئمة السنة ، بل كلهم متفقون على أن الفساق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار هو الفارق بينهم وبين الكفار ، والمنافقين ، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الإسلام المطلق الممدوح وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال : " لا يزني الزاني وهو مؤمن " ، والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان والإسلام بالكلية ، ويقولون : يخلد في النار لا يخرج منه لا بشفاعة لا بغيرها ، وهذا هو الذي أنكر عليهم وكان أهل السنة متفقة أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب فزال بعض إيمانه الواجب ، وإنما ينازع في ذلك من يقول الإيمان لا يتبعض كالجهمية والمرجئة ، فيقولون عن مثل هذا : إنه كامل الإيمان لكنه من أهل الوعيد . قال شيخ الإسلام : وحقيقة الفرق بين الإسلام والإيمان والدين أن الإسلام الذي ارتضاه الله ، وبعث به رسوله هو الاستسلام لله وحده ، فأصله في القلب وهو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه ، فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما ، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما ، والإسلام هو الاستسلام لله وهو الخضوع له ، والعبودية له .

هكذا قال - رحمه الله - وعزاه لأهل اللغة ، فالإسلام في الأصل من باب العمل عمل القلب ، والجوارح ، وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب ، والأصل فيه التصديق ، والعمل تابع له ; فلهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بإيمان مخصوص وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وفسر الإسلام بإسلام مخصوص وهو المباني الخمس ، وهكذا في سائر كلامه - صلى الله عليه وسلم - .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : ومما يسأل عنه : أنه إذا كان مما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة - أكثر من هذه الخمس ، فلماذا قال الإسلام هذه الخمس ؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شرائع الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده ، قال : والتحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدين الذي هو استسلام [ ص: 429 ] العبد لربه مطلقا الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين ، وهذه هي الخمس وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح فلا يعم وجوبها جميع الناس ، بل إما أن تكون فرضا على الكفاية كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغيره ، وإما أن تجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه وقد يسقط بإسقاطه . وكذلك ما يجب من صلة الأرحام وحقوق الزوجة والأولاد والجيران والشركاء والفقراء ، وكذا قضاء الديون ورد المغصوب والعواري والودائع ، والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض - إنما هي حقوق الآدميين ، وإذا أبرئوا منها سقطت ، وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال ، لم تجب عبادة محضة لله - تعالى - على كل عبد قادر ; ولهذا يشترك في أكثرها المسلمون ، واليهود ، والنصارى بخلاف الخمسة ، والزكاة ، وإن كانت حقا ماليا فهي واجبة لله ، والأصناف الثمانية مصارفها ; ولهذا وجب فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه ولم تطلب من الكفار ، وحقوق العباد لا يشترط لها نية ولو أداها عنه غيره ولو بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار .

وفي كتاب الإيمان والإسلام للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قال أبو طالب المكي : مثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين أحدهما من الأخرى في المعنى والحكم ، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية ، فهما شيئان من الأعيان ، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد ، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ، ولا إسلام لمن لا إيمان له ، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحح إسلامه ، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه . ثم قال : وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم ، وكل مسلم مؤمن بالله وكتبه . وقال الحافظ ابن رجب : إذا أفرد كل من الإسلام ، والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وإن قرن الاسمين كان بينهما فرق ، والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته ، والإسلام هو الاستسلام لله والخضوع والانقياد له ، وذلك يكون بالعمل وهو الدين ، كما سمى الله - تعالى - في كتابه الإسلام دينا وفي [ ص: 430 ] حديث جبريل سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان والإسلام والإحسان دينا ، فالإيمان والإسلام كاسم الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ، وإذا قرن بينهما احتاج كل واحد منهما إلى تعريف يخصه ، فإذا قرن بين الإيمان والإسلام فالمراد بالإيمان جنس تصديق القلب ، والإسلام جنس العمل .

واعلم أن مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدا ، فإن الله - تعالى - علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار ، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار ، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم ، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين ، ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان ، وقد أكثر الأئمة من التصنيف في هذا الباب ، وحاصل ذلك أن الدين وأهله كما أخبر خاتم النبيين وإمام المرسلين ثلاث طبقات أولها الإسلام وأوسطها الإيمان وأعلاها الإحسان فمن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها فالمحسن مؤمن ، والمؤمن مسلم ، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنا ، وهكذا جاء القرآن فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة قال الله - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه ، والمقتصد الذي أدى الواجب وترك المحرم وهو المؤمن المطلق ، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه ، وقد ذكر الله تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في سورة الواقعة ، والمطففين وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية