الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : معنى الآية ظاهر ، وفيه سؤال : وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول : ( وإن تغفر لهم ) والله لا يغفر الشرك ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه ، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا حيث كذب في هذه الحكاية ، وغفران الذنب جائز ، فلهذا المعنى طلب المغفرة من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار ؛ لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه ، فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله ، وترك التعرض والاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) يعني أنت قادر على ما تريد ، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك ، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية ؟ وقوله : إن الله لا يغفر الشرك ، فنقول : إن غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة ، قالوا : لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا ، بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في الجواب : أن القوم لما قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوز أن يكون بعضهم قد تاب عنه ، فقال : ( إن تعذبهم ) علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك ، وأنت قد حكمت على كل من كفر من عبادك بالعقوبة ، ( وإن تغفر لهم ) علمت أنهم تابوا عن الكفر ، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أنا ذكرنا أن من الناس من قال : إن قول الله تعالى لعيسى : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة ، وعلى هذا القول فالجواب سهل ؛ [ ص: 114 ] لأن قوله : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) يعني إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - في حق الفساق قالوا : لأن قول عيسى عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم ، وليس أيضا في حق الكفار لأن قوله : ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الإيمان ، وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى ؛ لأنه لا قائل بالفصل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : روى الواحدي رحمه الله أن في مصحف عبد الله ( وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ) سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول : ( العزيز الحكيم ) هاهنا أولى من الغفور الرحيم ؛ لأن كونه غفورا رحيما يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج ، وأما العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة ، فإن كونه عزيزا يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأنه لا اعتراض عليه لأحد ، فإذا كان عزيزا متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق ، ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفورا رحيما يوجب المغفرة والرحمة ، فكانت عبارته رحمه الله أن يقول : عز عن الكل ، ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل . وقال قوم آخرون : إنه لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم ، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم ، فلما قال : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى ، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية