الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين

قوله تعالى: "وصينا" الآية. روي عن قتادة أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، [ ص: 627 ] وذلك أنه هاجر، فحلفت أمه ألا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلج هو في هجرته، ونزلت الآية . وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وذلك أنه اعتراه في دينه نحو من هذا; إذ خدعه أبو جهل لعنة الله عليه ورده إلى أمه.... الحديث في كتاب السيرة. ولا مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام والهجرة، فكأن القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا الأمر العظيم، ولما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر التي قررتها الشريعة وأكدتها، وكان من الأمر القوي الملزم عندهم، قدم تعالى على النهي عن طاعتهما في الشرك بالله قوله: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ، على معنى: إنا لا نحل عقوق الوالدين، لكنا لا نسلط على طاعة الله تعالى، لا سيما في معنى الإيمان والكفر.

وقوله: "حسنا" يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوز، ويسهله كونه عاما لمعان، كما تقول: وصيتك خيرا، أو وصيتك شرا، عبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحصن ذلك دون حرف الجر كون حرف الجر في قوله: "بوالديه"; لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه، ونظير هذا قول الشاعر:


عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا     خيرا بها فكأننا جافونا

[ ص: 628 ] ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله: "بوالديه"، وينتصب "حسنا" بفعل مضمر تقديره: يحسن حسنا، وينتصب انتصاب المصدر، وقرأ عيسى والجحدري : "حسنا" بفتحتين، وقال الجحدري : في الإمام مكتوب: "بوالديه إحسانا"، قال أبو حاتم : يعني كالأحقاف، وقال الثعلبي : في مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه: "إحسانا" وقوله تعالى: إلي مرجعكم وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر.

ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم، وقوله تعالى: لندخلنهم في الصالحين مبالغة، على معنى: الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، وإذا تحصل للمؤمنين هذا الحكم تحصل ثمره، وجزاؤه هو الجنة.

وقوله تعالى: ومن الناس الآية إلى قوله: وليعلمن المنافقين ، نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة مختفين بإسلامهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما خرج كفار قريش إلى بدر أخرجوا مع أنفسهم طائفة من هؤلاء، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كانوا أصحابنا وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية، قال: فكتب المسلمون لمن بقي بمكة بهذه الآية، وألا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة وردوهم إلى مكة ، فنزلت فيهم الآية: ومن الناس من يقول آمنا بالله الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ، فكتب المسلمون إليهم بذلك، وأن الله تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا، فلحقهم المشركون [ ص: 629 ] فقاتلوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.

وقال ابن زيد : نزل قوله تعالى: جعل فتنة الناس في منافقين كفروا لما أوذوا.

وقوله تعالى: فتنة الناس كعذاب الله أي: صعب عليه أذى الناس حين صدوه، وكان حقه ألا يلتفت إليه، وأن يصبر عليه في جنب نجاته من عذاب الله تعالى. ثم أزال تعالى موضع تعلقهم ومغالطتهم إن جاء نصر، ثم قررهم على علم الله تعالى بما في صدورهم، أي: لو كان يقينا تاما وإسلاما خالصا لما توقفوا ساعة، ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.

وقوله تعالى: وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ، تفسيره على حد ما تقدم في نظيره.

وهنا انتهى المدني في هذه السورة.

التالي السابق


الخدمات العلمية