الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى

المعنى: وكما وصفنا من أليم الأفعال نجزي المسرفين المتعدين الكفار بالله عز وجل. وقوله سبحانه: ولعذاب الآخرة أشد وأبقى إن كانت معيشة الضنك في الدنيا أو في البرزخ فجاء هذا وعيدا بعذاب الآخرة بعد وعيد، وإن كانت المعيشة "الضنك" في الآخرة فأكد الوعيد بعينه هذا القول الذي جعل به عذاب الآخرة فوق كل عذاب يتخيله الإنسان أو يقع في الدنيا.

ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله تعالى: أفلم يهد لهم . وقرأت فرقة: "يهد" بالياء بمعنى: يتبين، واختلفت هذه الفرقة في الفاعل فقال بعضهم: الفاعل "كم"، وهذا قول كوفي، ونحاة البصرة لا يجيزونه; لأن "كم" لها صدر الكلام، وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أفلم يهد لهم من أهلكنا"، فكأن هذه القراءة تناسب ذلك التأويل في "كم"، وقال بعضهم: الفاعل الله عز وجل، والمعنى: أفلم يهد لهم ما جعل الله لهم من الآيات والعبر، فأضاف الفعل إلى الله تعالى بهذا الوجه: قاله الزجاج . وقال بعضهم: الفاعل مقدر، الهدى أو الأمر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

أو النظر والاعتبار، هذا أحسن ما يقدر به عندي.

[ ص: 144 ] وقرأت فرقة: "نهد" بالنون، وهذه القراءة تناسب تأويل من قال في التي قبلها: الفاعل الله، و "كم" - على هذه الأقوال - نصب بـ "أهلكنا". ثم قيد "القرون" بأنهم يمشي هؤلاء الكفرة في مساكنهم، فإنما أراد عادا وثمود والطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره. وقرأت فرقة: "يمشون" بفتح الياء، وقرأت فرقة: "يمشون" بضم الياء وفتح الميم وشد الشين. و "النهى" جمع نهية، وهو ما ينهى الإنسان عن فعل القبيح.

ثم أعلم عز وجل أن العذاب كان يصير لهم لزاما لولا كلمة سبقت من الله عز وجل في تأخيره عنهم إلى أجل مسمى عنده، فتقدير الكلام: ولولا كلمة سبقت في التأخير لأجل مسمى لكان العذاب لزاما، كما تقول: لكان حتما أو واجبا واقعا، لكنه قدم وأخر لتتشابه رؤوس الآي.

واختلف الناس في الأجل -فيحتمل أن يريد يوم القيامة. والعذاب المتوعد به - على هذا - هو عذاب جهنم، ويحتمل أن يريد بالأجل موت كل واحد منهم. فالعذاب - على هذا - ما يلقى في قبره وما بعده، ويحتمل أن يريد بالأجل يوم بدر . فالعذاب - على هذا - هو قتلهم بالسيف، وبكل احتمال مما ذكرناه قالت فرقة، وفي صحيح البخاري أن يوم بدر هو اللزام، وهو البطشة الكبرى.

ثم أمره تبارك وتعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه كذاب، إلى غير ذلك، والمعنى: لا تحفل بهم فإنهم مدركة المهلكة. وكون اللزام يوم بدر أبلغ في آيات نبينا صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: وسبح بحمد ربك ، قال أكثر المتأولين: هذه إشارة إلى الصلوات الخمس: قبل طلوع الشمس : صلاة الصبح، وقبل غروبها : صلاة العصر، ومن آناء الليل : العتمة، وأطراف النهار : المغرب والظهر. وقالت فرقة: آناء الليل : المغرب والعشاء، و " أطراف النهار " : الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن [ ص: 145 ] يراد قول: "سبحان الله وبحمده" من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى، وقبل غروب الشمس; فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبح عند غروب الشمس تسبيحة غربت بذنوبه .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وسمى الطرفين أطرافا على أحد وجهين: إما على نحو قوله: فقد صغت قلوبكما ، وإما على أن يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهي التي جمع. وأما من قال: " أطراف النهار " لصلاة الظهر وحدها فلا بد له من أن يتمسك بأن يكون النهار للجنس كما قلنا، أو يقول: إن النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان، فعند الزوال طرفان، الآخر من القسم الأول، والأول من القسم الآخر، فقال عن الطرفين: أطرافا على نحو فقد صغت قلوبكما ، وأشار إلى هذا النظر أبو بكر بن فورك في "المشكل".

و "الآناء" جمع "إنى" وهي الساعة من الليل، ومنه قول الهذلي :


لو ومر كعطف القدح مرته في كل إنى قضاة الليل ينتعل

[ ص: 146 ] وقالت فرقة: الآية إشارة إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس، وركعتا الفجر والمغرب أطراف النهار، وقرأ الجمهور : "لعلك ترضى" بفتح التاء، أي: لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به، وقرأ الكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : "لعلك ترضى"، أي: لعلك تعطى ما يرضيك.

التالي السابق


الخدمات العلمية