الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكارا لم يقع لهم في غيره مثله، زاد في تأكيده على وجه يعم غيره فقال: لقد رأى أي أبصر بسبب ما أهلناه له من الرسالة إبصارا ساريا إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر من آيات ربه أي المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده، ومن ادعى ذلك فهو كافر الكبرى من ذلك ما رآه في السماوات من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام إشارة بكل شيء إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة، وقال الإمام أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف: والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير، فإنه من علم النبوة، وأهل التعبير يقولون: من رأى نبيا بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث، وحديث الإسراء كان بمكة، ومكة حرم الله وأمنه، وقطانها جيران الله لأن فيها بيته، فأول من رأى صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام آدم عليه الصلاة والسلام الذي كان في أمن الله وجواره، فأخرجه إبليس عدوه منها، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته، فكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا [ ص: 55 ] قصة آدم عليه الصلاة والسلام مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم، فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها، كما قال الله تعالى، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وهما الممتحنان باليهود، أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله إليه، وأما يحيى عليه السلام فقتلوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان، وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى عليه السلام منهم، ثم سموه في الشاة ولم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة يحيى وعيسى لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران أمهما جنة، وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام، وذلك أن يوسف ظفر بإخوته من بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم الآية، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق، ومنهم من قبل أفديته، [ ص: 56 ] ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم: "أقول ما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم ثم لقاؤه إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكانا عليا ، وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم، فكان ذلك مؤذنا بالحالة الرابعة وهو علو شأنه عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما رأى من خوف هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك بني عمان ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه، فهذا مقام علي، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس عليه السلام، ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون عليه السلام المحبب في قومه يؤذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه، ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن بحالة تشبه حالة موسى عليه السلام حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد هلاك عدوهم، ولذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة [ ص: 57 ] حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيرا، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه، ثم لقاؤه في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام لحكمتين: إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسندا ظهره إليه، والبيت المعمور جبال مكة، وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج إليها، والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حجه إلى البيت الحرام، وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفا من المسلمين، ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة - انتهى. وهذا المقام هو الإسراء وما تفرع منه الموصل إلى أعلى ما يكون من تجريد التوحيد، فجعل سبحانه عنوانه المفروض فيه الحاجز بين الإسلام والشرك وهو الصلاة الجامعة لمعاني الدين الشاملة لجميع البركات بأن جعلت خمسين مستغرقة لجميع الفراغ ثم ردت إلى خمس دون القوى بكثير ثم رتب عليها جزاء الخمسين ورفع كل واحدة من صلاة الجماعة إلى سبع وعشرين صلاة وفضل صلاتي الطرفين: الصبح الثنائية والعصر الرباعية بشهادة فريقي الملائكة وكتابتهما في صحيفتي كل من الجمعين، فقال حمزة الكرماني في جوامع التفسير: فأسري به في شهر ربيع الأول قبل الهجرة من بيت أم هانئ رضي الله عنها، ثم ساق حديث الإسراء مساقا عجيبا جدا طويلا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية