الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا غلبوا على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها ) [ ص: 4 ] وقال الشافعي : لا يملكونها ; لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم . [ ص: 5 ] ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم ، وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل لضرورة تمكن المالك من الانتفاع ، فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان ، غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار ; لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا ، [ ص: 6 ] والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل ؟ .

[ ص: 7 ] ( فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء ، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا ) لقوله عليه الصلاة والسلام فيه { إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء ، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة } ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الأخذ نظرا له ، إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ; ليعتدل النظر من الجانبين ، والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة .

التالي السابق


( قوله : وإذا غلبوا على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملكوها ) وهو قول مالك وأحمد ، إلا أن [ ص: 4 ] عند مالك بمجرد الاستيلاء يملكونها . ولأحمد فيه روايتان كقولنا وكقول مالك : فيتفرع على ملكهم أموالنا بالإحراز أن لكل من دخل دار الحرب بأمان من المسلمين أن يشتري ما أخذوه فيأكله ويطأ الجارية لملكهم كل ذلك . ( وقال الشافعي : لا يملكونها ; لأن الاستيلاء ) أي استيلاءهم على أموالنا ( محظور ابتداء ) عند الأخذ ( وانتهاء ) عند صيرورتها في دارهم ; لبقاء عصمة المال لبقاء سببها وهو عصمة المالك . قال عليه الصلاة والسلام { فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم } والكفار مخاطبون بالحرمات إجماعا . ( والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدته ) فصار كاستيلاء المسلم على مال المسلم وكاستيلائهم على رقابنا ; ولأن النص دل عليه وهو ما روى الطحاوي مسندا إلى عمران بن الحصين قال : { كانت العضباء من سوابق الحاج ، فأغار المشركون على سرح المدينة وفيه العضباء وأسروا امرأة من المسلمين ، وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم في أفنيتهم ، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء ، فأتت على ناقة ذلول فركبتها ثم وجهت قبل المدينة ونذرت لئن الله عز وجل نجاها عليها لتنحرنها ، فلما قدمت عرفت الناقة ، فأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها ، فقال : بئس ما جزيتيها أو وفيتيها لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم } . وفي لفظ : فأخذ ناقته . ولو كان الكفار يملكون بالإحراز لملكتها المرأة لإحرازهم إياها . وللجمهور أوجه من النقل والمعنى ، فالأول قوله تعالى { للفقراء المهاجرين } سماهم فقراء ، والفقير من لا يملك شيئا ، فدل على أن الكفار ملكوا أموالهم التي خلفوها وهاجروا عنها ، وليس من ملك مالا وهو في مكان لا يصل إليه فقيرا بل هو مخصوص بابن السبيل ولذا عطفوا عليهم في نص الصدقة .

وأما ما استدل به الشارحون مما في الصحيحين أنه { قيل له عليه الصلاة والسلام في الفتح أين تنزل غدا بمكة ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من منزل . وروي أتنزل غدا بدارك ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع } ، وإنما قاله ; لأن عقيلا كان استولى عليه وهو على كفره فغير صحيح ; لأن الحديث إنما هو دليل أن المسلم لا يرث الكافر ، فإن عقيلا إنما استولى على الرباع بإرثه إياها من أبي طالب ، فإنه توفي وترك عليا وجعفرا مسلمين وعقيلا وطالبا كافرين فورثاه ، لا أن الديار كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما هاجر استولوا عليها فملكوها بالاستيلاء .

وروى أبو داود في مراسيله عن تميم بن طرفة قال : { وجد رجل مع رجل ناقة له ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقام البينة أنها له ، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تأخذ بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق ، وإلا فخل عن ناقته } والمرسل حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم . وأخرج الطبراني مسندا عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة . وفي سنده ياسين الزيات مضعف . وأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن ابن عباس { أنه عليه الصلاة والسلام قال فيما أحرزه العدو فاستنقذه المسلمون منهم : إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به ، وإن وجده قد قسم فإن شاء أخذه بالثمن } وضعف بالحسن بن عمارة . وأخرج الدارقطني عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ، ومن وجده بعدما قسم فليس له شيء } [ ص: 5 ] وضعف بإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ثم أخرجه بطريق آخر فيه رشدين وضعفه به .

وأخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا { من أدرك ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ، وإن أدركه بعد أن يقسم فهو أحق به بالثمن } وفيه ياسين ضعف به . قال الشافعي : واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب قال : من أدرك ما أخذ العدو قبل أن يقسم فهو له ، وما قسم فلا حق له فيه إلا بالقيمة . قال : وهذا إنما روي عن الشعبي عن عمر وعن رجاء بن حيوة عن عمر مرسلا وكلاهما لم يدرك عمر . وروى الطحاوي بسنده إلى قبيصة بن ذؤيب أن عمر بن الخطاب قال : فيما أخذه المشركون فأصابه المسلمون فعرفه صاحبه : أي أدركه قبل أن يقسم فهو له ، وإن جرت فيه السهام فلا شيء له . وروي فيه أيضا عن أبي عبيدة مثل ذلك . وروي بإسناده إلى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله .

وروي أيضا بإسناده إلى قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال : من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز . والعجب ممن يشك بعد هذه الكثرة في نفي أصل هذا الحكم ، ويدور في ذلك بين تضعيف بالإرسال أو التكلم في بعض الطرق ، فإن الظن بلا شك يقع في مثل ذلك أن هذا الحكم ثابت ، وأن هذا الجمع من علماء المسلمين لم يتعمدوا الكذب . ويبعد أنه وقع غلط للكل في ذلك ، وتوافقوا في هذا الغلط ، بل لا شك أن الراوي الضعيف إذا كثر مجيء معنى ما رواه يكون مما أجاد فيه ، وليس يلزم الضعيف الغلط دائما ، ولا أن يكون أكثر حاله السهو والغلط .

هذا مع اعتضاده بما ذكرنا من الآية والحديث من الصحيح . وحديث العضباء كان قبل إحرازهم بدار الحرب ; ألا يرى إلى قوله وكانوا إذا نزلوا منزلا إلخ فإنه يفهم أنها فعلت ذلك وهم في الطريق ، وأما المعنى فما أشار إليه المصنف بقوله : ( الاستيلاء ورد على مال مباح ) يعني الاستيلاء الكائن بعد الإحراز في حال البقاء ورد على مال مباح ( فينعقد سببا للملك كاستيلائنا على أموالهم ) فإنه ما تم لنا الملك فيه إلا لهذا المعنى ( وهذا ) أي كونه مباحا إذ ذاك ( لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ) وهو قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } فإنه يقتضي إباحة الأموال بكل حال ، وإنما تثبت ( لضرورة تمكن المحتاج من الانتفاع ، فإذا زالت المكنة ) من الانتفاع ( عاد مباحا ) وزوالها على التحقيق واليقين بتباين الدارين ، فإن الإحراز حينئذ يكون تاما وهو ( الاقتدار على المحل حالا ومآلا ) بالادخار إلى وقت حاجته ، بخلاف أهل البغي إذا أحرزنا أموالهم لا تزول أملاكهم ; لأن [ ص: 6 ] العصمة ومكنة الانتفاع ثابتة مع اتحاد الدار والملة من وجه فلا يزول الملك بالشك .

ثم أجاب عن قوله : المحظور لا يصلح سببا للملك . فقال : ذاك في المحظور لنفسه ( أما المحظور لغيره فلا فإنا وجدناه صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب ) كما في الصلاة في الأرض المغصوبة ( فما ظنك بالملك الدنيوي ) والقياس على استيلائهم على رقابنا فاسد ; لأنها ليست مالا ، وكذا على غصب المسلم مال المسلم ، وذلك ; لأنه ليس فيه إحراز يزيل الملك على ما ذكرنا في الباغي . وأورد عليه أن العصمة إن أزيلت بالإحراز بدارهم لا يكون الاستيلاء محظورا ليحتاج إلى هذا الكلام ، وإن لم تكن زالت لم تصر ملكا لهم .

وأجيب بأن العصمة المؤثمة باقية ; لأنها بالإسلام ، والمقومة زالت ; لأنها بالدار . وقد يقال إن كان الملك زال تبعا لزوال القيمة صار مباحا وعاد الأول ، وإن لم يسقط لزم الثاني فالمدار الإباحة وعدمها . ثم الوجه أن لا حاجة إلى إثبات أنه محظور لغيره ، وذلك ; لأن الاستيلاء إن أريد به ابتداء الأخذ أو إدخاله في دار الحرب يجب كونه قبيحا لعينه ; لأنه ظلم وهو قبيح لنفسه فهو محرم لنفسه ، وإن كان تحريم الغصب ; لقيام ملك الغير فهو قبيح لنفسه على ما عرف ، كذا أورد في الأصول على كون الغصب يفيد الملك ذلك . أجيب بأن المفيد له هو الضمان على ما في توجيهه من الكلام ، بل نقول : ليس الاستيلاء الأول سببا لملكه ولا الإدخال إلى دار الحرب ، بل الإدخال سبب زوال مكنة الانتفاع وزوال مكنة الانتفاع سبب الإباحة ، وهو لا يتصف بحل ولا حرمة ; لأنه ليس من الأفعال . ثم الاستيلاء الكائن في البقاء على ذلك المال المباح سبب ملك الكافر ، وهذا الاستيلاء ليس بمحرم ; لأنه على مال مباح ، وإباحته مسببة عما ليس بمحرم ، وهو زوال المكنة ، فأما الأخذ وما يليه فأسباب لغير ذلك مما ذكرنا ، فكان الوجه منع أن سبب الملك هنا محظور لنفسه أو غيره بل هو أمر مباح .

والسبب البعيد لا يؤثر في المسبب الأخير ; لأنه مسبب عن غيره على ما عرف من أن العلة البعيدة لا أثر لها في المعلول ، بخلاف الغصب فإنه لا يستعقب إباحة أصلا . وقول بعضهم في التقرير : لا نسلم أن الاستيلاء ورد على مال محظور معصوم ; لأن استيلاءهم إنما يتحقق بعد الإحراز وبعده ارتفعت العصمة فورد على مال مباح ، كمال المسلم ثمة إذا لم يهاجر إلينا يقتضي أن ماله مباح ، وليس كذلك بل ماله معصوم عليه غير العقار على الخلاف المتقدم ، [ ص: 7 ] وسببه أنه ليس في يده بل يكفي المنع بأن يقال : لا نسلم أنه محظور ; لأنه ورد على مال مباح إلخ .

( قوله : فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء . وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا ; لقوله عليه الصلاة والسلام فيه إن وجدته إلخ ) وتقدم الكلام في الحديث ونظائره . فإن قيل : أخذه قبل القسمة إذا كان حكما لازما يقتضي قيام ملكه . أجيب بالمنع فإن الواهب له أن يأخذ ما وهبه بعد زوال ملكه عنه شرعا ، وكذا الشفيع يقدم على المالك المشتري في الأخذ ولا ملك له . وحاصله أن في الشرع صورا يقدم فيها غير المالك على المالك كما أريناك فلأن يقدم غير المالك على غير المالك أولى وهو ما ذكرنا ، فإنه لا ملك لأحد في المغنوم قبل القسمة فجبر ضرورة القوي بضرر يسير ، فإن الشركة أولا في الحق دون الملك ، وثانيا هي شركة عامة فيخف ضرر كل واحد خفة كثيرة .

وصورة الشفيع شبيهة أخذه بالقيمة بعد القسمة ; لتقدمه في إثبات ملك منتف بإزالة ملك موجود بالثمن دفعا لضرر الجوار أو الخلطة مع دفع ضرر إتلاف مال الآخر ، وأشبه بالتاجر إذا دخل دار الحرب فاشترى ما استولوا عليه من مال المسلم فإنه إزالة ملك ثابت بعوض بإحداث ملك زائل بعوض بقدره وهي المسألة التي ذكرناها .

وهذا ; لأن الشارع لما لم يزل الملك الخاص الحادث للغازي في مقابلة غناء حصل له لا بمقابلة مال بذله إلا ببدله ; ليعتدل النظر ويخف الضرر من الجانبين ، فلأن لا يزيله برفع ملك حصل بعوض بإحداث ملك إلا بعوض ; ليعتدل من الجانبين أولى .




الخدمات العلمية