الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف ) [ ص: 211 ] لأن القسمة من تمام القبض والقبض عنده ليس بشرط فكذا تتمته . وقال محمد : لا يجوز لأن أصل القبض عنده شرط فكذا ما يتم به ، وهذا فيما يحتمل القسمة ، وأما فيما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشيوع عند محمد أيضا لأنه يعتبر بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة ، فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضا عند أبي يوسف ، لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى ، ولأن المهايأة فيهما في غاية القبح بأن يقبر فيه الموتى سنة ، ويزرع سنة ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت ، بخلاف الوقف لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة .

[ ص: 212 ] ولو وقفه الكل ثم استحق جزء منه بطل في الباقي عند محمد لأن الشيوع مقارن كما في الهبة ، بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض وقد وهبه أو أوقفه في مرضه وفي المال ضيق ، لأن الشيوع في ذلك طارئ .

ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ولهذا جاز في الابتداء ، وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة . [ ص: 213 ] قال : ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا . وقال أبو يوسف : إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم . لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وأنه يتأبد كالعتق ، فإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه ، فلهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع . ولأبي يوسف أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى وهو موفر عليه ، لأن التقرب تارة يكون في الصرف [ ص: 214 ] إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد فيصح في الوجهين وقيل إن التأبيد شرط بالإجماع ، إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد لأن لفظة الوقف والصدقة منبئة عنه لما بينا أنه إزالة الملك بدون التمليك كالعتق ، ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم ، وهذا هو الصحيح ، وعند محمد ذكر التأبيد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة أو بالغلة ، وذلك قد يكون مؤقتا وقد يكون مؤبدا فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص .

التالي السابق


( قوله وقف المشاع جائز عند أبي يوسف ) وعند محمد لا يجوز ، والخلاف مبني على [ ص: 211 ] الخلاف في اشتراط تسليم الوقف ، فلما شرطه محمد قال بعدم صحة المشاع ( لأن القسمة من تمام القبض ) ولا بد من القبض فوجب .

وعند أبي يوسف لا يشترط قبض المتولي فلا يشترط ما هو من تمامه ، فمن أخذ بقول أبي يوسف في خروجه بمجرد اللفظ ، وهم مشايخ بلخ أخذ بقوله في هذه ، ومن أخذ بقول محمد في تلك وهم مشايخ بخارى أخذ بقوله في وقف المشاع . وأما إلحاق محمد رحمه الله بالهبة والصدقة ( المنفذة ) أي المنجزة في الحال فإنها لا تكون مشاعا ، فكذا الصدقة المستمرة ; ففرق أبو يوسف بأن اشتراط القبض في تينك لما فيهما من التمليك للغير ، وأما الوقف فليس فيه تمليك من الغير حتى يشترط قبضه ، وإنما هو إسقاط الملك بلا تمليك فلا يرد العتق والطلاق فلا موجب لاشتراط القسمة فيه .

والحاصل أن المشاع إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتملها ، ففيما يحتملها أجاز أبو يوسف وقفه إلا المسجد والمقبرة والخان والسقاية ، ومنعه محمد رحمه الله مطلقا ، وفيما لا يحتملها اتفقوا على إجازة وقفه إلا المسجد والمقبرة ، فصار الاتفاق على عدم جعل المشاع مسجدا أو مقبرة مطلقا : أي سواء كان مما يحتمل القسمة أو لا يحتملها .

والخلاف مبني على اشتراط القبض والتسليم وعدمه ، فلما لم يشرطه أبو يوسف أجاز وقفه ، ولما شرطه محمد منعه ; لأن الشيوع وإن لم يمنع من التسليم والقبض ; ألا ترى أن الشائع كان مقبوضا لمالكه قبل أن يقفه لكن يمنع من تمام القبض فلذا منعه محمد رحمه الله تعالى عند إمكان تمام القبض ، وذلك فيما يحتمل القسمة فإنه يمكن أن يقسم أولا ثم يقفه ، وإنما أسقط اعتبار تمام القبض عند عدم الإمكان وذلك فيما لا يحتملها ، لأنه لو قسم قبل الوقف فات الانتفاع كالبيت الصغير والحمام فاكتفى بتحقق التسليم في الجملة ، وإنما [ ص: 212 ] اتفقوا على منع وقف المشاع مطلقا مسجدا ومقبرة ; لأن الشيوع يمنع خلوص الحق لله تعالى ولأن جواز وقف المشاع فيما لا يحتمل القسمة ; لأنه يحتاج فيه إلى التهايؤ ، والتهايؤ فيه يؤدي إلى أمر مستقبح ، وهو أن يكون المكان مسجدا سنة وإصطبلا للدواب سنة ومقبرة عاما ومزرعة عاما أو ميضأة عاما

وأما النبش فليس بلازم من المهايأة بل ليس للشريك ذلك ، ثم فيما يحتمل القسمة إذا قضى القاضي بصحته وطلب بعضهم القسمة لا يقسم عند أبي حنيفة ويتهايئون ، وعندهما يقسم ، وأجمعوا أن الكل لو كان وقفا على الأرباب وأرادوا القسمة لا تجوز ، وكذا التهايؤ ، وعليه فرع ما لو وقف داره على سكنى قوم بأعيانهم أو ولده ونسله ما تناسلوا ، فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين ، فإن هذا الوقف جائز على هذا الشرط ، وإذا انقرضوا تكرى وتوضع غلتها للمساكين وليس لأحد من الموقوف عليهم السكنى أن يكريها ، ولو زادت على قدر حاجة سكناه ، نعم له الإعارة لا غير ، ولو كثر أولاد هذا الواقف وولد ولده ونسله حتى ضاقت عليهم الدار ليس لهم إلا سكناها تقسط على عددهم ; ولو كانوا ذكورا وإناثا إن كان فيها حجر ومقاصير كان للذكران أن يسكنوا نساءهم معهم وللإناث أن تسكن أزواجهن معهن ، وإن لم يكن فيها حجر لا يستقيم أن تقسم بينهم ولا يقع فيها مهايأة إنما سكناه لمن جعل له الواقف ذلك لا لغيرهم ، ومن هذا يعرف أن لو سكن بعضهم فلم يجد الآخر موضعا يكفيه لا يستوجب أجرة حصته على الساكن ، بل إن أحب أن يسكن معه في بقعة من تلك الدار بلا زوجة أو زوج إن كان لأحدهم ذلك ، وإلا ترك المتضيق وخرج أو جلسوا معا كل في بقعة إلى جنب الآخر .

والأصل المذكور في الشروح والفرع في أوقاف الخصاف ولم يخالفه أحد فيما علمت ، وكيف يخالف ، وقد نقلوا إجماعهم على الأصل المذكور ; ولو اقتسما : أعني الواقف للمشاع وشريكه على القول بلزوم القسمة بعد القضاء أو قبله على قول أبي يوسف فوقع نصيب الواقف في محل مخصوص كان هو الوقف ولا يجب عليه أن يقفه ثانيا ( قوله ولو وقف الكل ثم استحق جزء منه ) يعني شائعا ( بطل الوقف عند محمد رحمه الله ) ; لأن بالاستحقاق ظهر أن الشيوع كان مقارنا للوقف ( كما في الهبة ) إذا وهب الكل ثم استحق بعضه بطلت لهذا ، بخلاف ما لو وهب الكل ( ثم رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض ) الذي وقف في مرضه الكل ، ولا يخرج من الثلث فإنه لا يبطل الباقي ; لأن الشيوع طار ، وإذا بطل الوقف في الباقي رجع إلى الواقف لو كان حيا وإلى ورثته إن ظهر الاستحقاق بعد موته ، وليس على الواقف أن يبيع ذلك ويشتري بثمنه ما يجعله وقفا ( ولو كان المستحق جزءا بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ) فلهذا جاز في الابتداء أن يقف ذلك الباقي فقط ( وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة ) لو استحق منهما جزء شائع بطلت ، ولو [ ص: 213 ] استحق معين لا تبطل .

ولو كانت الأرض بين رجلين فوقفاها على بعض الوجوه ، ودفعاها إلى وال يقوم عليها كان ذلك جائزا عند محمد ; لأن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل المتصدق به ، ولا شيوع هنا ; لأن الكل صدقة ، غاية الأمر أن ذلك مع كثرة المتصدقين والقبض من الوالي في الكل وجد جملة واحدة ، فهو كما لو تصدق بها رجل واحد سواء ، بخلاف ما لو وقف كل منهما نصفها شائعا على حدة وجعل لها واليا على حدة لا يجوز ; لأنهما صدقتان ، فإن كلا منهما تصدق بنصيبه بعقدة على حدة ; ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا على حدة ، ومثل ذلك في الصدقة المنفذة أيضا لا يجوز ، حتى لو تصدق بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم تصدق الآخر بالنصف عليه ، وسلم لم يجز شيء من ذلك ; لأن قبض كل منهما لاقى جزءا شائعا ; فكذا قبض الواليين هنا . ولو وقف كل منهما نصيبه وجعلا الوالي واحدا فسلماها إليه جميعا جاز ; لأن تمامها بالقبض ، والقبض مجتمع ( قوله ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبدا ) كالمساكين ومصالح الحرم والمساجد ، بخلاف ما لو وقف على مسجد معين ولم يجعل آخره لجهة لا تنقطع لا يصح لاحتمال أن يخرب الموقوف عليه ( وقال أبو يوسف : إذا سمى جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم ) هذا كلام القدوري .

وهذا كما ترى لا يناسب استدلال المصنف على أبي يوسف بقوله ( إن موجب الوقف ) يعني بعد التسليم إلى المتولي عند محمد رحمه الله وبعد الحكم عند أبي حنيفة ( زوال الملك بلا تمليك وزواله يتأبد بعتق ، وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه ، ولهذا كان التوقيت مبطلا له ) كما لو وقف عشرين سنة لا يصح اتفاقا ; لأنه إنما يلزمه لو قال بجواز انقطاعه [ ص: 214 ] وعوده إلى الواقف بعد انقطاع تلك الجهة أو إلى ورثته ، وهو لم يقل ذلك ، بل قال إذا انقطعت صار للفقراء . ثم نقل القدوري إنما هو على ما ذكره المصنف ثابتا عنه من التأبيد حيث قال ( وقيل إن التأبيد شرط بالإجماع ، إلا أن أبا يوسف لا يشترط ذكر التأبيد ; لأن لفظ الوقف والصدقة منبئ عنه لما بينا أنه إزالة الملك كالعتق ) وعندهما يشترط .

قال المصنف ( وهذا هو الصحيح . وعند محمد ذكر التأبيد شرط ; لأن هذا صدقة بالمنفعة ) إن كان وقف للسكنى ( أو بالغلة ) إن لم يكن ذكر السكنى ، ( وقد يكون ذلك مؤبدا وقد يكون غير مؤبد فمطلقه لا ينصرف إلى المؤبد ) بعينه ( فلا بد من التنصيص ) عليه فكان الأولى أن يولي هذين الوجهين لما نقله من عبارة القدوري ; ثم يذكر الرواية الأخرى ويذكر دليلهما الأول .

فأما الوجه الأول فإنما يناسب الرواية عن أبي يوسف بأنه بعد انقطاع الجهة يرجع إلى ملك الواقف أو ذريته ، وقد نقل من الفروع ما يدل على كل منهما عند أبي يوسف ، فمنها ما في المبسوط فيما إذا تصدق على أمهات أولاده في حياته ، وجعل لهن السكنى بعد وفاته ، وأي امرأة تزوجت منهن أو خرجت منتقلة إلى غيره فلا حق لها في السكنى ، ونصيبها مردود على من بقيت منهن ، فذلك جائز اعتبارا للسكنى بالغلة ، وهذا الشرط يصح منه لهن في الغلة ، إلى أن قال : وإن لم يحتج من بقي منهن كان ميراثا على فرائض الله تعالى عند أبي يوسف لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا يشترط التأبيد ، واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده ، فأما عند محمد رحمه الله التأبيد شرط واشتراط العود إلى الورثة يبطل هذا الشرط فيكون مبطلا للوقف إلا أن يجعل ذلك وصية عند موته فيجوز كالوصية لمعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة ، فإنه جائز أن يلزم ويعود إلى الورثة إذا سقط حق الموصى له ، ومن ذلك ما نقل للناطفي في الأجناس عن شروط محمد بن مقاتل عن أبي يوسف : إذا وقف على رجل بعينه جاز ، وإذا مات الموقوف عليه رجع الوقف إلى ورثة الواقف .

قال : وعليه الفتوى . وإذا عرف عن أبي يوسف جواز عوده إلى الورثة فقد يقول في وقف عشرين سنة بالجواز ; لأنه لا فرق أصلا ، ومنها ما ذكر في البرامكة . قال أبو يوسف : إذا انقرض [ ص: 215 ] الموقوف عليهم يصرف الوقف إلى الفقراء . قال في الأجناس : فحصل عنه روايتان . وأما الشرط الذي تقدم وهو قوله من تزوجت أو خرجت منتقلة عنه فلا حق لها فصحيح ، فلو طلقها زوجها أو مات أو عادت بعدما انتقلت لا يرجع لها ما كان لها في الوقف ، بل قد سقط ; لأنه قطع استحقاقها بأحد هذه الصفات فلا يعود إلا أن ينص على ذلك فيقول فإن عادت أو فارقت عاد ما كان لها




الخدمات العلمية