الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره ) ; لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله بخلاف السلم ; لأن التسليم فيه متأخر والهلاك ليس بنادر قبله فتتحقق المنازعة . [ ص: 266 ] وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا ، والأول أصح وأظهر

التالي السابق


( قوله ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره ) قد قيد الإناء بكونه مما لا يحتمل الزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد ، أما إذا كان يحتمل كالزنبيل والجوالق فلا يجوز ، وعلى هذا بيع ملء قربة بعينها أو رواية من النيل عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ; لأن الماء ليس عنده ولا يعرف قدر القربة لكن أطلق في المجرد جوازه ، ولا بد من اعتبار القرب المتعارفة في البلد مع غالب السقائين ، فلو ملأ له بأصغر منها لا يقبل ، وكذا رواية منه يوفيه في منزله .

وعن أبي يوسف إذا ملأها ثم تراضيا جاز كما قالوا لو باع الحطب ونحوه أحمالا لا يجوز ، ولو حمله على الدابة ثم باعه الحمل جاز لتعين قدر المبيع في الثاني . وفي الخلاصة اشترى كذا كذا قربة من ماء الفرات جاز استحسانا إذا كانت القربة معينة . وعن أبي يوسف أيضا يجوز في القرب مطلقا . وفي المحيط : بيع الماء في الحياض والآبار لا يجوز إلا إذا جعله في وعاء . ووجه في المبسوط مسألة الكتاب بأن في المعين مجازفة يجوز فبمكيال غير معروف أولى ، وفيه نظر فإن في المجازفة الإشارة إلى عين المبيع [ ص: 266 ] ثابتة تفيد الإحاطة بمقدار جرمه وأقطاره ، ومثل هذا التمييز لا يحصل لها في كيل غير معلوم قبل أن يصب فالأولوية منتفية بلا شك . والوجه يقتضي أن يثبت الخيار إذا كان به أو وزن للمشتري كما في الشراء بوزن هذا الحجر ذهبا نص في جمع النوازل على أن فيه الخيار إذا علم به ، ومعلوم أن ذلك بالوزن . وفي جميع التفاريق عن محمد رحمه الله جواز الشراء بوزن هذا الحجر ، وفيه الخيار ، وينبغي أن يكون هذا محمل الرواية عن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا كما لا يجوز في السلم ، فقوله لا يجوز أي يلزم .

قال المصنف ( والأول أصح ) أي من جهة الرواية ( وأظهر ) أي من حيث الوجه المذكور في الكتاب ، وحاصله أن الجهالة وإن كانت ثابتة لكنها لا تفضي إلى المنازعة وهي المانعة ، وذلك لأن يتعجل فيندر هلاكه ، بخلاف السلم لا يتعجل فقد يهلك ذلك الكيل والحجر فيتعذر تسليم المسلم فيه ، ولا يخفى أن هذا الوجه لا ينفي ثبوت الخيار ، وأقرب الأمور إلى ما نحن فيه قول أبي حنيفة في المسألة التي تلي هذه : وهي ما إذا باع صبرة كل قفيز بدرهم أنه إذا كان في المجلس حتى عرف المقدار صح ، ويثبت الخيار للمشتري كما إذا رآه ، ولم يكن رآه وقت البيع مع أن الفرض أنه رأى الصبرة قبل الكيل ووقعت الإشارة إليها ، لكن هذه الرواية أتم ، وصار كما إذا رأى الدهن في قارورة زجاج فإنه يثبت الخيار بعد صبه .

وهذا وقد روي عن أبي يوسف اشتراط كون ما يوزن به ولا يحتمل النقصان حتى لا يجوز بوزن هذه البطيخة ونحوها ; لأنها تنقص بالجفاف ، وعول بعضهم على ذلك ، وليس بشيء فإن البيع بوزن حجر بعينه لا يصح إلا بشرط تعجيل السلم ، ولا جفاف يوجب نقصا في ذلك الزمان ، وما قد يعرض من تأخره يوما أو يومين ممنوع ، بل لا يجوز ذلك كما لا يجوز الإسلام في وزن ذلك الحجر لخشية الهلاك فيتعذر التسليم ، وتقع المنازعة المانعة منه ، والفرض أن أقل مدة السلم ثلاثة أيام ، ولا شك أن تأخر التسليم فيه إلى مجلس آخر يفضي إلى المنازعة ; لأن هلاكه إن ندر فالاختلاف في أنه هو أو غيره والتهمة فيه ليس بنادر ، وكل العبارات تفيد صحة البيع في ذلك بالتعجيل كما في عبارة المبسوط حيث قال : ولو اشترى بهذا الإناء يدا بيد فلا بأس به ، ثم إن في المعين البيع مجازفة يجوز فبمكيال غير معروف أولى ، وهذا لأن التسليم عقيب البيع إلى آخر ما ذكر وتقدم النظر في الأولوية .

وهذا وأورد على التعليل بأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة ما إذا باع عبدا من أربعة يأخذ المشتري أيهم شاء أو باع بأي ثمن شاء فالبيع باطل مع أنه لا يفضي إلى المنازعة . وأجيب بأن المبطل في المورد معنى آخر وهو عدم المبيع والثمن لا الجهالة ، وكان مقتضاه أنه لا يجوز في عبد من ثلاثة ، لكن جاز على خلاف القياس كما سيأتي ، ولا شك أن القياس ما عن أبي حنيفة في القربة من ماء النهر ، وأنه كبيع الطير قبل أن يصطاده ، كما لو باعه كرا من حنطة ، وليس في ملكه حنطة صرحوا بأنه لا يجوز إلا أن يكون سلما ، وأما الاستحسان الثابت بالتعامل فمقتضاه الجواز بعد أن يسمي نوع القربة في ديارنا بمصر إذا لم تكن معينة مثل قربة كتافية أو سقاوية أو رواسية كبيرة ، ثم بعد ذلك التفاوت يسير أهدر في الماء .

ونظير ما نحن فيه ما إذا باع حنطة مجموعة في بيت أو مطمورة في الأرض والمشتري لا يعلم مبلغها ولا منتهى حفر الحفيرة أن له الخيار إذا علم ، إن شاء أخذها بجميع الثمن ، وإن شاء ترك ، وإن كان يعلم منتهى المطمورة ولا يعلم مبلغ الحنطة جاز ولا خيار له إلا أن يظهر تحتها دكان : أي صفة ونحوها ، كذا في فتاوى القاضي [ ص: 267 ] وعن أبي جعفر باعه من هذه الحنطة قدر ما يملأ هذا الطشت جاز ، ولو باعه قدر ما يملأ هذا البيت لا يجوز .

وفي الفتاوى : بعت منك ما لي في هذه الدار من الرقيق والدواب والثياب والمشتري لا يعلم ما فيها فهو فاسد لجهالة المبيع ; ولو قال ما في هذا البيت جاز ، وإن لم يعلم به ; لأن الجهالة يسيرة ، وإذا جاز في البيت جاز في الصندوق والجوالق ، ولو قال بعت منك نصيبي من هذه الدار فشرط الجواز علم المشتري بنصيبه دون علم البائع وتصديق البائع فيما يقول ، ولو اشترى موزونا بإناء على أن يفرغه ويزن الإناء فيحط قدر وزنه من الثمن جاز ، وكما تمنع الجهالة السابقة كذلك تمنع اللاحقة قبل التسليم ، فلذا اختلفوا فيما إذا باع الجمد الكائن في المجمدة ، قيل لا يجوز حتى يسلم أولا ، ثم يبيع ، والأصح جوازه مطلقا وهو اختيار الفقيه أبي جعفر إذا سلم قبل ثلاثة أيام ، ولو سلم بعدها لا يجوز ; لأنها تذوب في كل ساعة وهو وجه من منع قبل التسليم ، غير أن النقص قليل قبل الأيام الثلاثة غير معتبر فلهذا أهدر وجاز ، وقيل إنه يختلف باختلاف الصيف والشتاء وغلاء الجمد ورخصه فينظر إلى ما يعده الناس كثيرا بحسب الأوقات فيجوز إذا سلمه قبل ، وسيأتي من هذا الباب شيء في خيار الرؤية إن شاء الله تعالى




الخدمات العلمية