الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 515 ] قال ( ومن اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشترى منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن ) { ; لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان : صاع البائع ، وصاع المشتري } ; ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف [ ص: 516 ] في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه ، بخلاف ما إذا باعه مجازفة ; لأن الزيادة له ، وبخلاف ما إذا باع الثوب [ ص: 517 ] مذارعة ; لأن الزيادة له إذ الذرع وصف في الثوب ، بخلاف القدر ، ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري ; لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط ، ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري ; لأن الكيل من باب التسليم ; لأن به يصير المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته ، ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري فقد قيل لا يكتفى به لظاهر الحديث ، فإنه اعتبر صاعين والصحيح أنه يكتفى به ; لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم ، ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى ، ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما لأنه ليس بمال الربا ، وكالموزون فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله [ ص: 518 ] لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط .

التالي السابق


( قوله ومن اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة ) أي اشتراه على كذا كيلا أو رطلا ( فاكتاله أو اتزنه ) لنفسه ( ثم باعه مكايلة أو موازنة ) في الموزون ( لم يجز للمشتري منه أن يبيعه حتى يعيد الكيل والوزن { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان : صاع البائع ، وصاع المشتري } ) روي من حديث جابر هكذا لكن بلفظ الصاعان معرفا أسنده عنه ابن ماجه وإسحاق وابن أبي شيبة .

وأعل بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلفظه من حديث أبي هريرة وزاد فيه : [ ص: 516 ] { فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان } رواه البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقال : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وله طريقان أخريان عن أنس وابن عباس ضعيفان ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير { أن عثمان بن عفان وحكيم بن حزام كانا يبتاعان التمر ويجعلانه في غرائر ثم يبيعانه بذلك الكيل ، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعاه حتى يكيلا لمن ابتاعه منهما } فهذا الحديث حجة لكثرة تعدد طرقه وقبول الأئمة إياه ، فإنه قد قال بقولنا هذا مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم .

وحين علله الفقهاء بجعله من تمام القبض إذ بالكيل يتميز حقه عن حق البائع إذ عسى أن يكون أنقص أو أزيد فيضيع ماله عند البائع أو مال البائع عنده فألحقوا بمنع البيع منع الأكل قبل الكيل والوزن ، وكل تصرف يبنى على الملك كالهبة والوصية وما أشبههما وألحقوا بالمكيل الموزون ، وينبغي إلحاق المعدود الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض إذا اشتري معادة ، وبه قال أبو حنيفة في أظهر الروايتين عنه فأفسد البيع قبل العد ثانيا لاتحاد الجامع ، وهو وجوب تعرف المقدار وزوال احتمال اختلاط المالين ، فإن الزيادة فيه للبائع خلافا لما روي عنهما من جواز البيع الثاني قبل العد ، ولما كان في المذروعات الزيادة عند الحنفية للمشتري لم يلحقوها ; فلو اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع جاز أن يبيعه قبل الذرع ; لأنه لو زاد كان للمشتري ، ولو نقص كان له الخيار ، فإذا باعه بلا ذرع كان مسقطا خياره على تقدير النقص وله ذلك ، ولما كان النهي عن بيع الطعام اقتصر على ما إذا كان المكيل أو الموزون مبيعا ، فلو كان ثمنا بأن اشترى بهذا البر على أنه كر فقبضه جاز تصرفه فيه قبل الكيل والوزن ; لأن التصرف في الثمن قبل قبضه جائز ، فأولى أن يجوز التصرف فيه قبل ما هو من تمام قبضه ، ثم لا يخفى أن ظاهر النص منه بيع الطعام إلا مكايلة فيقتضي منع بيعه مجازفة ، ولا نعلم خلافا في أن ظاهره متروك وأنه محمول على ما إذا وقع البيع مكايلة .

أما إذا اشتراه مجازفة بيع صبرة فله أن يتصرف فيه قبل الكيل والوزن ; لأن كل المشار إليه له فلا يتصور اختلاط الملكين ، وقول المصنف فيه ( لأن الزيادة له ) قيل : معناه : الزيادة على ما كان يظنه بأن ابتاع صبرة على ظن أنها عشرة فظهرت خمسة عشر وتكلف [ ص: 517 ] غيره ، وكذا ما يفيد ظاهره من التزام جريان الصاعين محمول على ما إذا اشتراه البائع مكايلة وباعه كذلك ، أما إذا اشتراه مجازفة فإنما يحتاج إذا باعه مكايلة إلى كيل واحد للمشتري .

وقول الراوي حتى يجري فيه صاعان : صاع البائع معناه صاع البائع لنفسه ، وهو محمول على ما إذا كان البائع اشتراه مكايلة ، أما لو كان ملكه بالإرث أو الزراعة أو اشترى مجازفة أو استقرض حنطة على أنها كر ثم باعها فالحاجة إلى صاع واحد وهو صاع هذا المشتري ، وإن كان الاستقراض تمليكا بعوض كالشراء لكنه شراء صورة عارية حكما ; لأن ما يرده عين المقبوض حكما ولهذا لم يجب قبض بدله في مال الصرف فكان تمليكا بلا عوض حكما ; ولو اشتراها مكايلة ثم باعها مجازفة قبل الكيل وبعد القبض في ظاهر الرواية لا يجوز لاحتمال اختلاط ملك البائع بملك بائعه ، وفي نوادر ابن سماعة يجوز ، وإذا عرف أن سبب النهي أمر يرجع إلى المبيع كان البيع فاسدا ، ونص على الفساد في الجامع الصغير .

ونص على أنه لو أكله وقد قبضه بلا كيل لا يقال إنه أكل حراما ; لأنه أكل ملك نفسه ، إلا أنه آثم لتركه ما أمر به من الكيل ، فكان هذا الكلام أصلا في سائر المبيعات بيعا فاسدا إذا قبضها فملكها ثم أكلها ، وتقدم أنه لا يحل أكل ما اشتراه شراء فاسدا ، وهذا يبين أن ليس كل ما لا يحل أكله إذا أكله أن يقال فيه أكل حراما ( قوله ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع ) من المشتري الثاني ( وإن كان ) كاله لنفسه ( بحضرة المشتري ) عن شرائه هو ( لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط ) بالنص ( ولا بكيله بعد البيع ) الثاني ( بغيبة المشتري ) وغيبة وكيله في القبض ; لأن التسليم إلى الغائب لا يتحقق وهذا الكيل المأمور به لتسليم المقدار الواجب ( وإن كاله ) أو وزنه ( بعد العقد بحضرة المشتري ) مرة فيه اختلاف المشايخ ، قال عامتهم : كفاه ذلك حتى يحل للمشتري التصرف فيه قبل كيله ووزنه [ ص: 518 ] إذا قبضه ، وعند البعض لا بد من الكيل أو الوزن مرتين احتجاجا بظاهر الحديث ، والصحيح قول العامة ; لأن الغرض من الكيل والوزن صيرورة المبيع معلوما وقد حصل بذلك الكيل واتصل به القبض ، ومحمل ظاهر الحديث إذا وجد عقدان بشرط الكيل بأن يشتري المسلم إليه من رجل كرا لأجل رب السلم وأمر رب السلم بقبضه اقتضاء عن سلمه فإن في ذلك يشترط صاعان : صاع للمسلم إليه ، وصاع لرب السلم فيكيله للمسلم إليه ثم يكيله لنفسه ، بخلاف كيله بغيبته لانتفاء التسليم من الغائب فيثبت احتمال الاختلاط فلا يجوز ، ويصرح بنفيه ما في الجامع في بيع قفيز من صبرة إذا كال البائع قفيزا منها بغير حضرة المشتري فهلك أن البيع قائم في قفيز مما بقي ولا يقع به الإفراز ، ومن هنا ينشأ فرع وهو ما لو كيل الطعام بحضرة رجل ثم اشتراه في المجلس ثم باعه مكايلة قبل أن يكتاله بعد شرائه لا يجوز هذا البيع سواء اكتاله للمشتري منه أو لا ; لأنه لما لم يكتل بعد شرائه هو لم يكن قابضا فبيعه بيع ما لم يقبض فلا يجوز .




الخدمات العلمية