الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا إن بقيت عنده إلا لمحجوره : إلا ما لا يعرف بعينه ، ولو ختم عليه ، [ ص: 198 ] ودار سكناه ، إلا أن يسكن أقلها ، ويكري له الأكثر ، [ ص: 199 ] وإن سكن النصف : بطل فقط ، والأكثر بطل الجميع .

التالي السابق


( ولا ) تصح الهبة ( إن بقيت ) الذات الموهوبة ( عنده ) أي الواهب لفلسه أو موته أو جنونه أو مرضه المتصلين بموته وأعاد هذا لاستثنائه منه بقوله ( إلا ) الواهب ( لمحجوره ) فتصح هبته له مع بقائه عنده إلى موته ; لأنه الذي يحوز له إن كان الموهوب مما يعرف بعينه ، بدليل قوله ( إلا ما ) أي موهوبا ( لا يعرف ) بضم فسكون ففتح بعينه من معدود أو موزون كدنانير أو دراهم أو مكيل فلا تصح هبته لمحجوره مع بقائه عنده إن لم يختم عليه ، بل ( ولو ) جعل في صرة و ( ختم ) بضم فكسر ( عليه ) أي ما لا يعرف بعينه بختم الواهب والشهود فلا يكفي في حوزه له ، ولا بد من إخراجه عنه في رواية ابن القاسم والمصريين وغيرهم عن الإمام مالك " رضي الله عنه " ، وبه جرى العمل . وأشار ب ولو لقول المدنيين يصح حوزها إذا أحضرها للشهود وختم عليها . فيها من تزوج بكرا ووهب لها قبل البناء أو بعده وهي سفيهة أو مجنونة جنونا [ ص: 198 ] مطبقا وأشهد على ذلك فلم يخرجه من يده فلا يكون الزوج حائزا لها إلا أن يخرج ذلك من يده ويجعله على يد من يحوزه لها ، ولا يكون متصدق حائزا لصدقته إلا أب أو وصي لمن في ولايته ، والزوج لا يجوز أمره على زوجته ولا بيعه مالها وأبوها الحائز لها وإن دخل بها زوجها ما دامت سفيهة أو في حال لا يجوز لها أمر . ومن سماع ابن القاسم ، أن الأب يحوز ما وهبه لولده من العروض التي تعرف بعينها ، بخلاف ما لا يعرف بعينه إلا إن كان دينا .

ابن عرفة حوز الأب لصغار ولده ما يعرف بعينه صحيح . ابن رشد اتفاقا . الباجي وأما ما لا يتعين كالدنانير والدراهم فإنها إن بقيت بيد الأب غير مختوم عليها لم يتصرف فيها لابنه الصغير ، فقال ابن القاسم إن مات الأب وهي على ذلك بطلت العطية وكذلك لو تصدق عليه بعشرة دنانير فقال مالك " رضي الله عنه " لا يجوز . وإن طبع عليها حتى يدفعها إلى غيره ويخرجها عن ملكه وذلك إنها غير معروفة العين ولا متعينة بالإشارة إليها ولا يصح أن تعرف بعينها إذا أفردت من غيرها ، ولم يختلف أصحابنا في ذلك إذا وهبه عشرة دنانير من دنانيره . وأما إذا ختم عليها وأمسكها عنده فقد روي عن مالك أنها تبطل ، زاد ابن المواز وإن ختم عليها الشهود والأب وبه أخذ ابن القاسم والمصريون ، ووجهه أنها مما لا يتعين بالعقد فلا يصح فيها حيازة مع بقائها بيد معطيها كالتي لم يختم عليها . المتيطي قبض الأب لابنه الصغير جائز ، والإشهاد بالصدقة يغني عن ذكر الحيازة ، ويضمن معرفة الشهود وصغر الابن لئلا يقوم عليه من يدعي أن الأب إنما تصدق عليه وهو كبير ولم يجز ويقول هو كنت صغيرا إن لم يعلم الشهود ذلك ، واختلف إذا نزل ذلك أيهما يقبل .

( و ) إلا ( دار سكناه ) أي الواهب فلا تصح هبتها لمحجوره إذا استمر ساكنا بها لموته في كل حال ( إلا أن يسكن ) الواهب ( أقلها ) أي الدار ( ويكري ) بضم التحتية الواهب ( له ) أي محجوره الموهوب له ( الأكثر ) من الدار فتصح الهبة في جميعها . فيها من حبس على صغار ولده دارا أو وهبها لهم أو تصدق بها عليهم فحوزه حوز صحيح إلا [ ص: 199 ] أن يسكنها كلها أو جلها إلى موته فيبطل جميعها ، وإن سكن من الدار الكبيرة ذات المساكن أقلها وأكرى لهم باقيها نفذ لهم ذلك فيما سكن وفيما لم يسكن ، ولو سكن الجل وأكرى لهم الأقل بطل الجميع .

( وإن سكن ) الواهب ( النصف ) من الدار التي وهبها المحجور وأكرى له النصف الآخر ( بطل ) النصف المسكون ( فقط ) أي دون النصف المكرى ، فتصح هبته . عزاه اللخمي لابن القاسم وأشهب ( و ) إن سكن الواهب ( الأكثر ) من الدار الموهوبة لمحجوره ( بطل الجميع ) المسكون والمكرى له . في النكت حفظت عن بعض شيوخنا إذا سكن أبو الأصاغر شيئا فهي على ثلاثة أوجه ، إن سكن أكثر من النصف بطل الجميع ، وإن سكن أقل من النصف صح لهم ما سكن وما لم يسكن ، وإن سكن القليل وأبقى الكثير خاليا فلا يجوز لهم ذلك حتى يكريه للأصاغر ; لأن تركه لكرائه منع له فكأنه أبقاه لنفسه فذلك كأشغاله إياه بسكناه . عياض هذا صحيح من النظر ظاهر من لفظ الكتاب . المتيطي شرط صدقة الأب على صغار بنيه بدار سكناه إخلاؤها من نفسه وأهله وثقله ومعاينتها . البينة فارغة من ذلك ويكريها لهم .

( تنبيهات )

الأول . طفي قوله ودار سكناه عطف على ما لا يعرف بعينه ، وهو مستثنى من قوله ولا إن بقيت عنده فيقتضي أن دار السكنى كما لا يعرف بعينه لا بد من إخراجها من يده إلى من يحوزها ، وبذا قرره الشارح في شروحه الثلاثة ، فقال يعني أن الولي إذا وهب لمحجوره دار سكناه ، فإن حكمها في اشتراط إخراجها عن يده حكم ما إذا وهب له ما لا يعرف بعينه ، وجرى على ذلك في شامله فقال ولو وهبه دار سكناه أو تصدق بها أو حبسها عليه وقدم من حازها جاز . ا هـ . وما قاله غير صحيح وكتب المالكية مصرحة بخلافه ، إذ لم أر من اشترط منهم في ذلك خروجها عن يده إلى من يحوزها كما لا يعرف بعينه ، نعم تفارق غيرها في كونها لا بد من إخلائها من شواغله ومعاينة البينة لذلك ، [ ص: 200 ] ثم تبقى تحت يده ، ففي وثائق ابن شريعة بالعين المهملة والفاء وإن كانت الصدقة في دار يسكنها الأب فلا تجوز حتى يخليها الأب من أهله وثقله ، وتكون فارغة ويكريها للابن ، فإن لم تكن على هذا فلا تجوز الصدقة ، ونحوه للمتيطي وقد تقدم نصه . قال أبو القاسم الجزيري في وثائقه في وثيقة هبة الأب دار سكناه لابنه الصغير وانتقل المتصدق المذكور عن جميع الدار المذكورة ببينة وأهله ومتاعه تصحيحا للصدقة وإكمالا لها ، وتولى قبضها من نفسه لابنه المذكور واحتازها له بما يحوز به الآباء ، ثم قال وإن تصدق الأب على ابنه الصغير بدار لا يسكنها فلا تذكر في العقد الانتقال ولا التخلي ولا قيد معاينة الشهود للقبض وإشهاد الأب في ذلك كاف ، وكذلك ما أشبه ذلك من الأملاك والحيوان ، ومثله لابن سلمون وغير واحد من الموثقين . والحاصل أنه تفترق دار السكنى من غيرها في هبة الأب لولده الصغير بأن دار السكنى لا بد من معاينة البينة التخلي ومثلها الملبوس ، وأما غيرهما فيكفي فيه إشهاد الأب بالصدقة أو الهبة ، وإن لم تعاين البينة الحيازة . المتيطي وإشهاد الأب بصدقته يغني عن الحيازة وإحضاره لشهودها فيما لا يسكنه الأب ولا يلبسه ، فظهر لك المخالفة بين هبة ما لا يعرف بعينه وهبة دار السكنى .

الثاني : هذا حكم هبة الأب للصغير ، وأما الكبير والأجنبي فلا بد من معاينة البينة حوزهما لأنفسهما ، ولا يكفي الإقرار به كما تقدم في الحبس .

الثالث : ليس التفصيل المتقدم خاصا بدار السكنى ، بل كذلك غيرها إذا سكنها بعد الهبة إذ لم يخصوه بها كما توهمه عبارة المصنف .

الرابع : مثل الدور في التفصيل المذكور الثياب يلبسها ، وكذا ما لا يعرف بعينه إذا أخرج بعضه وأبقى بعضه عنده كما في البيان .

الخامس : ذكر ابن سلمون في صرف الغلة قولين والظاهر منه ترجيح القول ببطلان الهبة إذا ثبت أن الأب صرف الغلة في مصالح نفسه مثل ما في الوقف ، وكذا قال الشيخ [ ص: 201 ] ابن رحال في حاشية التحفة الذي رجحه الناس هو شرط صرف الغلة للمحجور في الهبة والحبس ، وأنه لا فرق بينهما في هذا ، قال وانظر دليله واضحا بينا .




الخدمات العلمية