الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2482 أعمرته الدار فهي عمرى : جعلتها له .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أشار بهذا إلى تفسير العمرى ، وهو أن يقول الرجل لغيره أعمرته داري أي جعلتها له مدة عمري ، وقال أبو عبيد : العمرى أن يقول الرجل للرجل داري لك عمرك ، أو يقول داري هذه لك عمري ، فإذا قال ذلك وسلمها إليه كانت للمعمر ولم ترجع إليه إن مات ، وكذا إذا قال أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك حياتك أو ما بقيت أو ما عشت أو ما حييت وما يفيد هذا المعنى .

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا رحمه الله : العمرى على ثلاثة أقسام ; أحدها : أن يقول أعمرتك هذه الدار فإذا مت فهي لعقبك أو ورثتك ، فهذه صحيحة عند عامة العلماء ، وذكر النووي أنه لا خلاف في صحتها وإنما الخلاف هل يملك الرقبة أو المنفعة فقط ؟ وسنذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  القسم الثاني : أن لا يذكر ورثته ولا عقبه ، بل يقول أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك أو نحو هذا ويطلق ، ففيها أربعة أقوال أصحها الصحة كالمسألة الأولى ، ويكون له ولورثته من بعده ، وهو قول الشافعي في الجديد ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وسفيان الثوري وأبو عبيد وآخرون .

                                                                                                                                                                                  القول الثاني : أنها لا تصح ; لأنه تمليك مؤقت ، فأشبه ما لو وهبه أو باعه إلى وقت معين ، وهو قول الشافعي في القديم .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أنها تصح ويكون للمعمر في حياته فقط ، فإذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان قد مات ، وحكي هذا أيضا عن القديم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أنها عارية يستردها المعمر متى شاء ، فإذا مات عادت إلى ورثته .

                                                                                                                                                                                  القسم الثالث : أن لا يذكر العقب ولا الورثة ولا يقتصر على الإطلاق ، بل يقول فإذا مت رجعت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت ، فإن قلنا بالبطلان في حالة الإطلاق فهاهنا أولى ، وكذلك في الإطلاق بالصحة وعودها بعد موت المعمر إلى المعمر ، وإن قلنا إنها تصح في حالة الإطلاق ويتأبد الملك ففيه وجهان لأصحاب الشافعي ; أحدهما عدم الصحة ، قال الرافعي : وهو أسبق إلى الفهم . ورجحه القاضي ابن كج وصاحب التتمة ، وبه جزم الماوردي . والثاني : يصح ويلغو الشرط ، وعزاه الرافعي للأكثرين .

                                                                                                                                                                                  ثم اختلف العلماء فيما ينتقل إلى المعمر هل ينتقل إليه ملك الرقبة حتى يجوز له البيع والشراء والهبة وغير ذلك من التصرفات أو إنما تنتقل إليه المنفعة فقط كالوقف ؟ فذهب الجمهور إلى أن ذلك تمليك للرقبة ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وذهب مالك إلى أنه إنما يملك المنفعة فقط ، فعلى هذا فإنها ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر عن غير وارث أو انقرضت ورثته ولا يرجع إلى بيت المال .

                                                                                                                                                                                  ثم هاهنا مسائل متعلقة بهذا الباب ; الأولى : العمرى المذكورة في أحاديث هذا الباب وفي غيره هل هي عامة في كل ما يصح تمليكه من العقار والحيوان والأثاث وغيرها أو يختص ذلك بالعقار ؟ الجواب أن أكثر ورود الأحاديث في الدور والأراضي ، فإما أن يكون خرج مخرج الغالب فلا يكون له مفهوم ويعم الحكم كل ما يصح تمليكه ، أو يقال هذا الحكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر على مورد النص فلا يتعدى به إلى غيره . قال شيخنا : لم أر من تعرض لذلك ، إلا أن الرافعي مثل في أمثلة العمرى بغير العقار فقال : ولو قال داري لك عمرك فإذا مت فهي لزيد ، أو عبدي لك عمرك فإذا مت فهو حر - تصح العمرى على قولنا الجديد ولغي المذكور بعدها ، فعلم من هذا جريان الحكم في العبيد وغيرهم .

                                                                                                                                                                                  الثانية : هل يستوي في العمرى تقييد ذلك بعمر الواهب كما لو قيده بعمر الموهوب ؟ فعن أبي عبيد التسوية بينهما ; لأنه فسر العمرى بأن يقول للرجل هذه الدار لك عمرك أو عمري ، ولكن عند أصحاب الشافعي عدم الصحة في هذه الصورة . قال الرافعي : ولو قال جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي .

                                                                                                                                                                                  الثالثة : إذا قيد الواهب العمرى بعمر أجنبي بأن قال جعلت هذه الدار لك عمر زيد ، فهل يصح ؟ قال الرافعي : أجري فيه الخلاف فيما إذا قال عمري أو حياتي ، [ ص: 179 ] فعلى هذا فالأصح عدم الصحة لخروجه عن اللفظ الوارد فيه .

                                                                                                                                                                                  الرابعة : إذا لم يشترط الواهب الرجوع بعد موت المعمر لنفسه بل شرطه لغيره فقال : فإذا مت فهي لزيد - قال الرافعي : يصح ويلغو الشرط ، وكذا لو قال أعمرتك عبدي فإذا مت فهو حر يصح ويلغو الشرط على الجديد .

                                                                                                                                                                                  الخامسة : إذا لم يذكر العمر في العقد ، بل أورده بصيغة الهبة ، كما إذا قال وهبتك هذه الدار فإذا مت رجعت إلي ، فهذا لا يصح . قال الرافعي : ظاهر المذهب فساد الهبة والوقف بالشروط التي يفسد بها البيع بخلاف العمرى لما فيها من الإخبار .

                                                                                                                                                                                  السادسة : إذا أتى بما يقتضي العمرى ولكن بصيغة البيع فقال ملكتك هذه الدار بعشرة عمرك ، فنقل الرافعي عن ابن كج أنه قال : لا ينعقد عندي جوازه تفريعا على الجديد . وقال أبو علي الطبري : لا يجوز . قال شيخنا : ما قاله أبو علي هو الصحيح نقلا وتوجيها ، فقد جزم به ابن شريح وأبو إسحاق المروزي والماوردي ، وما نقله عن ابن كج احتمال ، وقال به ابن خيران فيما حكاه صاحب التحرير .

                                                                                                                                                                                  السابعة : هل تجوز الوصية بالعمرى بأن يقول إذا مت فهذه الدار لزيد عمره ؟ كما يجوز تنجيزها ، فقال به الرافعي ولكنها تعتبر من الثلث .

                                                                                                                                                                                  الثامنة : لا يجوز تعليق العمرى بغير موت المعمر ، كقوله إذا مات فلان فقد أعمرتك هذه الدار .

                                                                                                                                                                                  وأما الرقبى فهو أن يقول الرجل للرجل : أرقبتك داري ; إن مت قبلك فهي لك ، وإن مت قبلي فهي لي . وهو مشتق من الرقوب ، فكأن كل واحد منهما يترقب موت صاحبه . وقال الترمذي : ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الرقبى جائزة مثل العمرى ، وهو قول أحمد وإسحاق ، وفرق بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم بين العمرى والرقبى فأجازوا العمرى ولم يجيزوا الرقبى ، وقال صاحب الهداية : العمرى جائزة للمعمر له في حال حياته ولورثته من بعده . قلت : وهذا قول جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم ، وروي عن شريح ومجاهد وطاوس والثوري ، وقال صاحب الهداية أيضا : والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد ومالك ، وقال أبو يوسف : جائزة ، به قال الشافعي وأحمد .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية