الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1274 95 - حدثنا محمود قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام ، فلما جاءه صكه ، فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عليه عينه وقال : ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ثم ماذا ؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن ، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر " .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله ( فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة )

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله )

                                                                                                                                                                                  وهم ستة : الأول : محمود بن غيلان بالغين المعجمة مر في باب النوم قبل العشاء ، الثاني : عبد الرزاق بن همام وقد مضى ، الثالث : معمر بفتح الميمين ابن راشد وقد تكرر ذكره ، الرابع : عبد الله بن طاوس مر في باب المرأة تحيض ، الخامس : طاوس بن كيسان وقد مر غير مرة ، السادس : أبو هريرة رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه مروزي ، ومعمر بصري ، وعبد الرزاق وعبد الله بن طاوس وأبوه طاوس يمانيون ، وفيه رواية الابن عن الأب ، وفيه أن أبا هريرة لم يرفع الحديث هاهنا فلذلك عابه الإسماعيلي ورفعه في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما يجيء ، وأخرجه عن يحيى بن موسى ، وأخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، وأخرجه النسائي في الجنائز عن محمد بن رافع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه )

                                                                                                                                                                                  قوله : ( أرسل ) على صيغة المجهول ومعلوم أن الله هو الذي أرسله ، قوله : ( صكه ) أي ضربه بحيث فقأ عينه ، يدل عليه قوله : ( فرد الله عينه ) وقد صرح بذلك في رواية مسلم قال : حدثني محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال عبد : أخبرنا ، وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، " عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فلما جاءه صكه ففقأ عينه ، فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال : فرد الله إليه عينه " الحديث ، وفي رواية له : " جاء ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، فرجع الملك إلى الله فقال : أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال : فرد الله إليه عينه " الحديث ، وهذا الطريق مرفوع والذي قبله موقوف كما أخرجه البخاري ، وقال ابن خزيمة : أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث وقالوا : لا يخلو أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت أو لم يعرفه ، فإن كان عرفه فقد استخف به ، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتي موسى عيانا لا معنى لها ، ثم إن الله تعالى لم يقتص لملك الموت من اللطمة وفقء العين والله تعالى لا يظلم أحدا .

                                                                                                                                                                                  قال ابن خزيمة : وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته ، ومعنى الحديث صحيح وذلك أن موسى لم يبعث الله إليه ملك الموت وهو يريد قبض روحه حينئذ ، وإنما بعثه اختبارا وابتلاء ، كما أمر الله تعالى خليله بذبح ولده ولم يرد إمضاء ذلك ، ولو أراد أن يقبض روح موسى عليه الصلاة والسلام حين لطم الملك لكان ما أراد ، وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذ رأى آدميا دخل عليه ولا يعلم أنه ملك الموت ، وقد أباح الرسول عليه الصلاة والسلام فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن ، ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه ، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فلم يعرفهم ابتداء ولو علمهم لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلا لأنهم لا يطعمون ، وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه ولو عرفته لما استعاذت منه ، وقد دخل الملكان على داود عليه الصلاة والسلام في شبه آدميين يختصمان عنده فلم يعرفهما ، وقد جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن [ ص: 149 ] الإيمان فلم يعرفه ، وقال : ما أتاني في صورة قط إلا عرفته فيها غير هذه المرة ، فكيف يستنكر أن لا يعرف موسى الملك حين دخل عليه .

                                                                                                                                                                                  وأما قول الجهمي إن الله تعالى لم يقتص للملك فهو دليل على جهله من الذي أخبره أن بين الملائكة والآدميين قصاصا ، أو من أخبره أن الملك طلب القصاص فلم يقتص له ، وما الدليل على أن ذلك كان عمدا وقد أخبرنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله تعالى لم يقبض نبيا قط حتى يريه مقعده في الجنة ويخبره ، فلم ير أن يقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة ويخبره . وقال ابن التين : وقول من قال فقأ عينه بالحجة ليس بشيء لما في الحديث فرد الله عينه . وقال الخطابي : ( فإن قيل ) : كيف يجوز أن يفعل موسى عليه الصلاة والسلام بالملك مثل هذا الصنيع ، أو كيف تصل يده إليه ، أو كيف لا يقبض الملك روحه ولا يمضي أمر الله تعالى به ؟ ( قلت ) : أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام في حياته بأمور أفرده بها ، فلما دنت وفاته لطف أيضا به بأن لم يأمر الملك به بأخذ روحه قهرا ، لكن أرسله على سبيل الامتحان في صورة البشر ، فاستنكر موسى عليه الصلاة والسلام شأنه ودفعه عن نفسه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون الصورة الملكية ، وقد كان في طبع موسى عليه الصلاة والسلام حدة ، روي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا . وقال النووي : ( فإن قلت ) : كيف جاز عليه فقء عين الملك ؟ ( قلت ) : لا يمتنع أن يأذن الله له في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحانا للملطوم ، والله يفعل ما يشاء . وقال ابن قتيبة في مختلف الحديث : أذهب موسى عليه الصلاة والسلام العين التي هي تخييل وتمثيل وليست على حقيقته ، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقه الروحاني كما كان لم ينتقص منه شيء .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( قال أي رب ) أي قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب . قوله : ( ثم ماذا ) وفي رواية ( ثم مه ) وهي ما الاستفهامية ولما وقف عليها زاد هاء السكت ، والمعنى ثم ما يكون بعد ذلك . قوله : ( قال ثم الموت ) أي قال الله تعالى : ثم يكون بعد ذلك الموت . قوله : ( قال فالآن ) أي قال موسى عليه الصلاة والسلام : فالآن يكون الموت ، ولفظ الآن ظرف زمان غير متمكن ، وهو اسم لزمان الحال ، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل وهو يدل على أن موسى عليه السلام لما خيره الله تعالى اختار الموت شوقا إلى لقاء ربه تعالى ، كما خير نبينا عليه الصلاة والسلام فقال : " الرفيق الأعلى " . قوله : ( فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة ) أي فعند ذلك سأل موسى الله أن يقربه من الأرض المقدسة وهي بيت المقدس ، وقال ابن التين : الأرض المقدسة الشام ، ومعنى المقدسة المطهرة ، وكلمة أن مصدرية في محل النصب على المفعولية ، أي : سأل الله تعالى الدنو من بيت المقدس ليدفن فيه دنوا لو رمى رام الحجر من ذلك الموضع الذي هو الآن موضع قبره لوصل إلى بيت المقدس ، وإنما سأل ذلك لفضل من دفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين ، فاستحب مجاورتهم في الممات كما في الحياة ، ولأن الناس يقصدون المواضع الفاضلة ويزورون قبورها ويدعون لأهلها . وقال المهلب : إنما سأل الدنو منها ليسهل على نفسه ويسقط عنه المشقة التي تكون على من هو بعيد منها وصعوبته عند البعث والحشر .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : لم لم يسأل نفس البيت وسأل الدنو منه ؟ ( قلت ) : خاف أن يكون قبره مشهورا فيفتنن به الناس ، كما أخبر به الشارع أن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( رمية بحجر ) يحتمل أن يكون على قربها دونها قدر رمية حجر أو أدنى من مكاني إلى الأرض المقدسة هذا القدر .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : ما الحكمة في طلبه الدنو من الأرض المقدسة ؟ ( قلت ) : الحكمة في ذلك أن الله لما منع بني إسرائيل من دخول بيت المقدس ، وتركهم في التيه أربعين سنة إلى أن أفناهم الموت ولم يدخل الأرض المقدسة إلا أولادهم مع يوشع عليه السلام ، ومات هارون ثم موسى عليهما السلام قبل فتحها ، ثم إن موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبارين عليها ، ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلب القرب منها لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه ، وقيل : إنما طلب الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت ولا ينقل ، قيل : فيه نظر ; لأن موسى قد نقل يوسف عليهما السلام إلى بلد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ( قلت ) : وفيه نظر ; لأن موسى ما نقله إلا بالوحي فكان ذاك مخصوصا به .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( فلو كنت ثم ) بفتح الثاء المثلثة ، وهو اسم يشار به ، ولما عرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى قائما يصلي في قبره ، وفي المرآة اختلفوا في موضع قبر موسى عليه الصلاة والسلام على أقوال

                                                                                                                                                                                  أحدها : أنه بأرض التيه هو وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يدخل الأرض المقدسة إلا رمية حجر ، رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال : لا يعرف قبره ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبهم ذلك [ ص: 150 ] بقوله : ( إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) ولو أراد بيانه لبين صريحا . وقال ابن عباس : لو علمت اليهود قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله تعالى . وقال ابن إسحاق : لم يطلع على قبر موسى عليه الصلاة والسلام إلا الرخمة وهي التي اطلعت على قبر هارون لما دفن في التيه ، فنزع الله تعالى عقلها لئلا تدل عليه ، ومعنى عقلها إلهامها .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أنه بباب لد بالبيت المقدس ، وقال الطبري : هو الصحيح . ( قلت ) : كيف يكون هو الصحيح وقد قال ابن عباس ووهب وعامة العلماء إنه بأرض التيه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أن قبره ما بين عالية وعويلة ، ذكره الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق فقال : وروي أن قبر موسى بين عالية وعويلة ، وهما محلتان عند مسجد القدم ، ويقال : إن قبره رئي في المنام فيها ، قال : والأصح أنه بتيه بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أن قبره بواد في أرض مآب بين بصرى والبلقاء .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أن قبره بدمشق ، ذكره الحافظ أبو القاسم عن كعب الأحبار ، وذكر ابن حبان في ( صحيحه ) : أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين المقدس ، واعترض عليه الضياء محمد بن عبد الواحد في كتابه علل الأحاديث بأن مدين ليست قريبة من القدس ولا من الأرض المقدسة ، وقد اشتهر أن قبره بأريحا وهي من الأرض المقدسة مرار ، ويقال : إنه قبر موسى صلى الله عليه وسلم وعنده كثيب أحمر - كما في الحديث - وطريق ، والدعاء عنده مستجاب .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( إلى جانب الطور ) ذكر ياقوت في كتاب المشترك أن الطور سبعة مواضع منها : جبل بيت المقدس يقال له طور زيتا ، وفي الأثر مات بطور زيتا سبعون ألف نبي قتلهم الجوع وهو شرقي وادي سلوان ، ومنها طور هارون علم لجبل عال مشرف من قبلي بيت المقدس فيه فيما قيل قبر هارون أخي موسى عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أن الطور المذكور هو أحد الطورين المذكورين ولكن الأقرب أنه طور زيتا ، والله أعلم . قوله : ( عند الكثيب الأحمر ) هو الرمل المجتمع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه دلالة ظاهرة على أن لموسى عليه الصلاة والسلام منزلة كبيرة ; حيث فقأ عين ملك الموت ولم يعاتبه عليه ، وفيه استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والقرب من مدافن الصالحين ، وفيه أن للملك قدرة على التصور بصورة غير صورته ، وفيه في قوله : ( يضع يده على متن ثور ) دلالة على أن الدنيا بقي منها كثير وإن كان قد ذهب أكثرها ، وفيه دلالة على الزيادة في العمر مثل الحديث الآخر : " من سره أن يبسط في رزقه وينسأ في أثره فليصل رحمه " وهو يؤيد قول من قال في قوله تعالى : وما يعمر من معمر الآية ، أنه زيادة ونقص في الحقيقة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية