الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1302 122 - حدثنا عفان بن مسلم قال : حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود قال : قدمت المدينة وقد وقع بها مرض ، فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمر بهم جنازة فأثني على صاحبها خيرا ، فقال عمر رضي الله عنه : وجبت . ثم مر بأخرى فمرت بهم جنازة فأثني على صاحبها خيرا ، فقال عمر رضي الله عنه : وجبت . ثم مر بالثالثة فأثني على صاحبها شرا ، فقال : وجبت . فقال أبو الأسود : فقلت : وما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة . فقلنا : وثلاثة ؟ قال : وثلاثة . فقلنا : واثنان ؟ قال : واثنان . ثم لم نسأله عن الواحد .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( حدثنا ) كذا وقع لأكثر الرواة ، وذكر أصحاب الأطراف أنه أخرجه قائلا : قال عفان ، [ ص: 196 ] وبذلك جزم البيهقي ، وقال صاحب التلويح : كذا ذكره البخاري معلقا عن شيخه فقال : وقال عفان . وقاله أيضا أبو العباس الطرقي وخلف في كتاب الأطراف والذي في نسخة سماعنا : حدثنا عفان . وعلى تقدير صحة الأول فقد وصله الإسماعيلي في صحيحه فقال : حدثنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عفان . . . إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم خمسة ; الأول : عفان - بتشديد الفاء - ابن مسلم - بكسر اللام الخفيفة - الصفار . الثاني : داود بن أبي الفرات - بلفظ النهر المشهور - واسم أبي الفرات عمرو ، وهو كندي ، ولهم شيخ آخر يقال له : داود بن أبي الفرات ، واسم أبيه بكر ، واسم جده أبو الفرات ، وهو أشجعي من أهل المدينة أقدم من الكندي . الثالث : عبد الله بن بريدة - بضم الباء الموحدة - مر في أواخر كتاب الحيض . الرابع : أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان ، من سادات التابعين ، ولي البصرة وهو أول من تكلم في النحو بعد علي رضي الله تعالى عنه ، مات سنة سبع وستين ، وهو المشهور بالدؤلي ، وفيه اختلافات ; فقيل بضم الدال وسكون الواو وبالضم والهمزة المفتوحة ، قال الأخفش : هو بالضم وكسر الهمزة ، إلا أنهم فتحوا الهمزة في النسبة استثقالا للكسرتين وياء النسبة ، وربما قالوا بضم الدال وفتح الواو المقلوبة عن الهمزة . وقال ابن الكلبي : بكسر الدال وقلب الهمزة ياء .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في موضع واحد ، وفيه عفان بن مسلم الصفار مذكور في بعض النسخ بالصفار وفي بعضها بدونه ، وفيه رواية عبد الله بن بريدة معنعنة عن أبي الأسود . وذكر الدارقطني في كتاب التتبع عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود ولم يقل في هذا الحديث سمعت أبا الأسود ، قيل : إن ابن بريدة ولد في عهد عمر رضي الله تعالى عنه ، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب ، لكن البخاري رضي الله تعالى عنه لا يكتفي بالمعاصرة ، فلعله أخرجه شاهدا واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله ، وفيه قال الكرماني : ورجال الإسناد كلهم بصريون . قلت : داود مروزي ولكنه تحول إلى البصرة ، وهو من أفراد البخاري .

                                                                                                                                                                                  وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن موسى بن إسماعيل عن داود بن أبي الفرات ، وأخرجه الترمذي في الجنائز وقال : حدثنا يحيى بن موسى وهارون بن عبد الله البزار ، قالا : حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود الديلي قال : قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فمروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال عمر : وجبت . فقلت لعمر : ما وجبت ؟ قال : أقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قال : ما من مسلم يشهد له ثلاثة إلا وجبت له الجنة . قلنا : واثنان ؟ قال : واثنان . قال : ولم نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الواحد . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه النسائي ، وفي لفظه " أربعة " مثل لفظ البخاري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( قدمت المدينة ) ; أي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وقد وقع مرض ) جملة حالية ، وزاد البخاري في الشهادات عن موسى بن إسماعيل عن داود بن أبي الفرات : وهم يموتون موتا ذريعا ; وهو بالذال المعجمة ، أي سريعا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فجلست إلى عمر ) ، يحتمل أن يكون " إلى " هاهنا على بابه بمعنى الانتهاء والغاية ، والمعنى انتهى جلوسي إلى عمر رضي الله تعالى عنه ، والأوجه أن يكون " إلى " هاهنا بمعنى عند ; أي جلست عند عمر ، كما قال في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                  أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل

                                                                                                                                                                                  قوله ( فأثني على صاحبها خيرا ) بنصب " خيرا " في أكثر الأصول ، وكذا " شرا " ، ويروى " خير وشر " بالرفع فيهما . و " أثني " على صيغة المجهول ، فوجه النصب ما قاله ابن بطال أنه أقام الجار والمجرور مقام المفعول الأول وخيرا مقام المفعول الثاني ، وقال ابن مالك : خيرا صفة لمصدر محذوف وأقيمت مقامه ، فنصب لأن أثني مسند إلى الجار والمجرور ، والتفاوت بين الإسناد إلى المصدر ، والإسناد إلى الجار والمجرور قليل . وقال النووي : هو منصوب بإسقاط الجار ; أي فأثني عليها بخير ، ووجه الرفع ظاهر وهو أن أثني مسند إليه . وقال ابن التين : الصواب بالرفع ، وفي نصبه بعد في اللسان .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وجبت ) ; أي الجنة كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قال أبو الأسود ) وهو الراوي المذكور ، وهو بالإسناد المذكور .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وما وجبت ؟ ) استفهام عن [ ص: 197 ] معنى الوجوب فيهما مع اختلاف الثناء بالخير والشر .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أيما مسلم ) إلى آخره مقول قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( شهد له أربعة ) ; أي أربعة من المسلمين ، وفي رواية الترمذي " ثلاثة " كما ذكرنا . فإن قلت : ما الحكمة في اختلاف هذا العدد حيث جاء أربعة وثلاثة واثنان ؟ قلت : لاختلاف المعاني ; لأن الثناء قد يكون بالسماع الفاشي على الألسنة فاستحب في ذلك التواتر والكثرة ، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة بأحوال المشهود له ، فيأتي في ذلك أربعة شهداء لأن ذلك أعلى ما يكون من الشهادة ، ألا يرى أن الله تعالى جعل في الزنا أربعة شهداء فإن قصروا يأتي فيه ثلاثة ، فإن قصروا فيه يأتي فيه شاهدان ؟ لأن ذلك أقل ما يجزي في الشهادة على سائر الحقوق رحمة من الله تعالى لعباده المؤمنين وتجاوزا عنهم حيث أجرى أمورهم في الآخرة على نمط أمورهم في الحياة الدنيا ، ولهذا لم يسألوا النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن الواحد حيث قال : ثم لم نسأله عن الواحد ; أي : ثم لم نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثناء الشخص الواحد هل يكتفى به ؟ وذلك أن هذا المقام مقام عظيم فلا يكتفى فيه بأقل من النصاب . فإن قلت : هل يختص الثناء الذي ينفع الميت بالرجال أم يشترك فيه الرجال والنساء ؟ فإذا قلنا يشتركون فيه فهل يكتفى في ذلك بامرأتين أو لا بد من رجل وامرأتين أو أربع نسوة ؟ قلت : الظاهر الاكتفاء باثنين مسلمين وأنه لا يحتاج إلى قيام امرأتين مقام رجل واحد ، وروى الطبراني في معجمه الكبير من رواية إسحاق بن إبراهيم بن قسطاس عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه : ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : الجنة إن شاء الله تعالى . قال : فما تقولون في رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم إلا خيرا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : الجنة إن شاء الله تعالى . قال : فما تقولون في رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم خيرا . فقالوا : النار . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مذنب ، والله غفور رحيم . فقد يقال : لا يكتفى بشهادة النساء ، ألا يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بشهادة المرأة التي أثنت على عثمان بن مظعون بقولها شهادتي عليك أبا السائب ، فقال لها : وما يدريك ؟ وقد يجاب عنه بأنه إنما أنكر عليها القطع بأن الله أكرمه ، وذلك مغيب عنها بخلاف الشهادة للميت بأفعاله الجميلة التي كان متلبسا بها في الحياة الدنيا ، والحديث الذي فيه قضية عثمان بن مظعون رواه الحاكم من حديث حارثة بن زيد أن أم العلاء - امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنهم اقتسموا للمهاجرين قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا ، فوجع وجعه الذي مات فيه ، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا عثمان بن مظعون ، رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين ، فوالله إني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي ! قالت : فوالله ما أزكي بعده أحدا . وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . فإن قلت : هل يختص الثناء الذي ينفع الميت بكونه ممن خالطه وعرف حاله أم هو على عمومه ؟ قلت : الظاهر الأول ، بدليل قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في حديث أنس الذي رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناد صحيح قال : قال رسول الله : ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون إلا خيرا إلا قال الله تعالى : قد قبلت علمكم وغفرت له ما لا تعلمون . فإن قلت : هل ينفع الثناء على الميت بالخير وإن خالف الواقع أم لا بد أن يكون الثناء عليه مطابقا للواقع ؟ قلت : قال شيخنا زين الدين رحمه الله : فيه قولان للعلماء ، أصحهما أن ذلك ينفعه وإن لم يطابق الواقع ; لأنه لو كان لا ينفعه إلا بالموافقة لم يكن للثناء فائدة ، ويؤيد هذا ما رواه ابن عدي في الكامل من رواية فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد سيرزق الثناء والستر والحب من الناس حتى تقول الحفظة : ربنا إنك تعلم ونعلم غير ما يقولون ! فيقول : أشهدكم أني قد غفرت له ما لا يعلمون وقبلت شهادتهم على ما يقولون . فإن قلت : الحديث [ ص: 198 ] المذكور الذي رواه أبو يعلى يدل على أن المراد الثناء المطابق ، بدليل قوله " قد قبلت علمكم " ، والعلم لا يخالف الواقع - قلت : المراد بالعلم الشهادة ، كما في الحديث المذكور الذي رواه أبو يعلى عن ابن عمر ، وكذلك في مسند أحمد في هذا الحديث عن أبي هريرة : قد قبلت شهادتهم . ومعنى قوله " غفرت له ما لا يعلمون " أي من الذنوب التي لم يطلعوا عليها . فإن قلت : هل تشترط في هذه الشهادة العدالة كسائر الشهادات أم تكفي في ذلك شهادة المسلمين وإن لم يكونوا بوصف العدالة المشترطة في الشهادة ؟ قلت : يدل على الأول حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه آنفا ; لأنه قال فيه : فقام رجلان ذوا عدل . وعلى الثاني يدل ظاهر حديث الباب ، ومع هذا الأصل في الشهادة العدالة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه فضيلة هذه الأمة ، وفيه إعمال الحكم بالظاهر ، وفيه جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة ولا يكون ذلك من الغيبة ، وذكر الغزالي والنووي إباحة العلماء الغيبة في ستة مواضع ، فهل تباح في حق الميت أيضا وأن ما جاز غيبة الحي به جازت غيبة الميت به أم يختص جواز الغيبة في هذه المواضع المستثناة بالأحياء ؟ ينبغي أن ينظر في السبب المبيح للغيبة إن كان قد انقطع بالموت كالمصاهرة والمعاملة فهذا لا يذكر في حق الميت لأنه قد انقطع ذلك بموته ، وإن لم ينقطع ذلك بموته كجرح الرواة وكونه يؤخذ عنه اعتقاد أو نحوه فلا بأس بذكره به ليحذر ويجتنب .

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد ، وفيه اعتبار مفهوم الموافقة لأنه سأل عن الثلاثة ولم يسأل عما فوق الأربعة كالخمسة مثلا ، وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلا قطعيا بل هو في مقام الاحتمال .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية