الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2329 ص: غير أن قوما ذهبوا إلى أن آخر وقتها غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: ثنا وهب بن جرير ، قال: ثنا شعبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصلاة ، ومن أدرك ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك" .

                                                حدثنا علي بن معبد ، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال: [ثنا] سعيد ، أخبرنا [عن] معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني ، قال: ثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار وبسر بن سعيد وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" .

                                                وحدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                [ ص: 175 ] قالوا: فلما كان من أدرك من العصر ما ذكر في هذه الآثار صار مدركا لها؛ ثبت أن آخر وقتها هو غروب الشمس، وممن قال ذلك: أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الإسناد إلى أن مذهب طائفة من الفقهاء أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس، وأن الذي يؤخر صلاة العصر عن صيرورة ظل كل شيء مثليه غير مفرط.

                                                وأراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر بن الهذيل ومالكا في رواية ابن وهب ؛ فإنهم قالوا: آخر وقت العصر هو غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وعائشة -رضي الله عنهما-؛ لأنه -عليه السلام- قال: "من أدرك ركعة من العصر أو ركعتين قبل أن تغرب الشمس، صار مدركا لها" .

                                                فثبت بذلك أن آخر وقتها هو غروب الشمس؛ لأن معنى قوله -عليه السلام-: "فقد أدرك" أي: وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي أو أسلم الكافر أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض، تجب عليه صلاة العصر ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرا لا يتسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.

                                                فإن قلت: قيد في الحديث ركعة فينبغي أن لا يعتبر أقل منها.

                                                قلت: قيد الركعة في الحديث خرج مخرج الغالب؛ فإن غالب ما يمكن معرفة الإدراك به ركعة ونحوها، حتى قال بعضهم من الشافعية : إنما أراد رسول الله -عليه السلام- بذكر الركعة البعض من الصلاة؛ لأنه قد روي عنه: "من أدرك ركعة من العصر" ، و: "من أدرك ركعتين من العصر" ، و: "ومن أدرك سجدة من العصر" ، فأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة، ومرة بركعتين، ومرة بسجدة، والتكبيرة في حكم الركعة؛ لأنها بعض الصلاة، فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة.

                                                فإن قيل: المراد من السجدة: الركعة [ ص: 176 ] على ما روى مسلم : حدثني أبو الطاهر وحرملة ، كلاهما عن ابن وهب - والسياق لحرملة - قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال: رسول الله [-عليه السلام-]: "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها" . والسجدة إنما هي الركعة.

                                                قلت: قد فسر السجدة بالركعة حرملة ، وكذا فسر في "الأم" لأنه يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، وأيا ما كان فالمراد بعض الصلاة وإدراك شيء منها، وهو يطلق على الركعة والسجدة وما دونها مثل تكبيرة الإحرام.

                                                وحديث: "من أدرك سجدة" رواه أحمد في "مسنده": ثنا معاوية ، ثنا زائدة ، نا عبد الله بن ذكوان أبو الزناد ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرك قبل طلوع الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة ومن أدرك قبل غروب الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة" .

                                                ثم إن الطحاوي - رحمه الله -: أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أبي صالح ذكوان السمان ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الطيالسي في "مسنده": ثنا وهب ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك من العصر ركعتين أو ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" .

                                                [ ص: 177 ] وأخرجه أحمد : عن محمد بن جعفر ، [عن شعبة ]، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة أو ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك" .

                                                الثاني: عن علي بن معبد بن نوح ، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن معمر بن راشد ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها" .

                                                وأخرجه مسلم : عن عبد بن حميد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة نحوه.

                                                الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن بشر - بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة - بن عمر بن الحكم الزهراني ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم القرشي أحد مشايخ أبي حنيفة ، عن عطاء بن يسار الهلالي مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-.

                                                وعن بسر - بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة - بن سعيد المدني العابد ، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

                                                [ ص: 178 ] وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ... إلى آخره نحوه.

                                                ومسلم : عن يحيى بن يحيى ، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه.

                                                والترمذي : عن إسحاق بن موسى الأنصاري ، عن معن ، عن مالك ... إلى آخره.

                                                وابن ماجه : عن محمد بن الصباح ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس عن أبي هريرة : ثنا الحسن بن الربيع ، حدثني ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه، عن ابن عباس ، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" .

                                                وأما حديث عائشة ل فقد أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم : عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم ، عن عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير بن العوام ، عن عائشة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه النسائي : أنا محمد بن رافع ، قال: ثنا زكريا بن عدي ، قال: ثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها" .

                                                [ ص: 179 ] وأخرجه ابن ماجه : ثنا أحمد بن عمرو بن السرح وحرملة بن يحيى ، قالا: نا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدركها" .

                                                ويستنبط منه أحكام:

                                                الأول: استدل به أبو حنيفة ومن تبعه ممن ذكرناهم أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس؛ لأن من أدرك منه ركعة أو ركعتين مدرك له، فإذا كان مدركا يكون ذلك الوقت من وقت العصر؛ لأن معنى قوله: "فقد أدرك" أدرك وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي قبل غروب الشمس، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض؛ تجب عليه صلاة العصر، ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرا لا يسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.

                                                وقال زفر : لا تجب ما لم يجد وقتا يسع فيه الأداء حقيقة.

                                                وعن الشافعي قولان فيما إذا أدرك دون ركعة كتكبيرة مثلا:

                                                أحدهما: لا بد منه.

                                                والآخر: يلزمه، وهو أصحهما.

                                                وقال أبو عمر : قال مالك : إذا طهرت المرأة قبل الغروب فإن كان بقي عليها من النهار قدر ما تصلي فيه خمس ركعات صلت العصر، وإذا طهرت قبل الفجر وكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات - ثلاثا للمغرب وركعة من العشاء - صلت المغرب والعشاء، وإن لم يبق عليها إلا ما تصلي فيه ثلاث ركعات صلت العشاء، ذكره أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب عن مالك ، وقال ابن وهب : سألت مالكا عن المرأة تنسى - أو تغفل عن - صلاة الظهر فلا تصليها

                                                [ ص: 180 ] حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس. فقال مالك : لا أرى عليها قضاء للظهر والعصر إلا أن تحيض بعد غروب الشمس.

                                                وقال الشافعي وابن علية : لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما يمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلت؛ لزمها قضاء صلاة الظهر؛ لأن الصلاة تجب بأول الوقت.

                                                وقال الشافعي : وإن حاضت وقد مضى من الوقت قدر ما لا يمكنها فيه الصلاة بتمامها لم يجب عليها قضاؤها، كما لو حاضت وهي في الصلاة في أول وقتها لم يكن عليها إعادتها.

                                                وقال مالك : من أغمي عليه في وقت صلاة حتى ذهب وقتها ، ظهرا كانت أو عصرا - فقال: الظهر والعصر وقتها في هذا إلى مغيب الشمس - فلا إعادة عليه، وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله.

                                                وقول الليث في المغمى عليه والحائض كقول مالك سواء.

                                                وقال مالك : إذا طهرت قبل غروب الشمس فاشتغلت [بالغسل] فلم تزل مجتهدة حتى غربت الشمس، لا أرى أن تصلي شيئا من صلاة النهار.

                                                وقالت طائفة من أهل العلم منهم ابن علية وهو أحد أقوال الشافعي وهو المشهور عنه [في البويطي] وغيره: إذا طهرت الحائض في وقت صلاة [وأخذت] في غسلها فلم تفرغ حتى [خرج] وقت تلك الصلاة وجب عليها قضاء تلك الصلاة؛ لأنها في وقتها غير حائض، وليس فوت الوقت على الرجل يسقط عنه الصلاة إن اشتغل بوضوء أو غسل حتى فاته الوقت، وكذلك الحائض إذا طهرت.

                                                [ ص: 181 ] قال الشافعي : وكذلك المغمى عليه يفيق، والنصراني يسلم، قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر أو قبل طلوع الشمس.

                                                وسئل الأوزاعي عن الحائض تصلي ركعتين ثم تحيض ، وكيف إن كانت أخرت الصلاة؟ قال: إن أدركها المحيض في صلاة انصرفت عنها ولا شيء عليها، وإن كانت أخرت الصلاة حتى جاز الوقت فعليها قضاؤها، وإن كانت أخرت الصلاة ولم يذهب الوقت فلا شيء عليها.

                                                قال: وإذا طهرت المرأة بعد العصر فأخذت في غسلها فلم تفرغ منه حتى غابت الشمس فلا شيء عليها.

                                                ذكره الوليد بن يزيد عن الأوزاعي ، وقد ذكرنا عن الشافعي أنه إذا طهرت المرأة قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر، وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء، واحتج بقوله -عليه السلام-: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح..." الحديث.

                                                وقال الشافعي في هذه المسألة قولان آخران: أحدهما: مثل قول مالك سواء.

                                                والقول الآخر قاله في "الكتاب المصري" فقال في المغمى عليه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه تكبيرة الإحرام ، أعاد الظهر والعصر ولم يعد ما قبلها لا صبحا ولا مغربا ولا عشاء، قال: فإذا أفاق وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة ؛ قضى المغرب والعشاء، فإذا أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة قضى الصبح، وإذا طلعت الشمس قبل أن يفيق لم يقضها، قال: وكذلك الحائض تطهر، والرجل يسلم، وقال فيمن جن بأمر لا يكون به عاصيا فذهب عقله: لا قضاء عليه ومن كان زوال عقله بما يكون به عاصيا قضى صلاة فاتته في حال زوال عقله، وذلك مثل السكران وشارب السم والشيركران عامدا لإذهاب عقله.

                                                [ ص: 182 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه - وهو قول ابن علية -: من طهر من الحيض أو بلغ من الصبيان أو أسلم من الكفار؛ لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته، وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد، وهم لا يقولون باشتراك الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار، ولا يرون لأحد الجمع بين الصلاتين لا لمسافر ولا لمريض في وقت إحداهما، ولا يجوز ذلك عندهم بغير عرفة والمزدلفة ، وهو قول حماد بن أبي سليمان في هذه المسألة كقول أبي حنيفة ، ذكر غندر ، عن شعبة قال: سألت حمادا عن المرأة تطهر في وقت العصر؟ قال تصلي العصر فقط.

                                                وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل منها ثم أفاق : إنه يقضيها، ومن أغمي عليه أكثر من ذلك ثم أفاق لم يقضه.

                                                وهو قول الثوري إلا أنه قال: أحب إلي أن يقضي، وقال زفر في المغمى عليه يفيق، والحائض تطهر، والنصراني يسلم، والصبي يحتلم: إنه لا يجب على واحد منهم قضاء صلاة إلا بأن يدركوا من وقتها مقدار الصلاة كلها بكمالها، كما لا يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله.

                                                قال أبو عمر : قوله -عليه السلام-: "من أدرك ركعة..." الحديث يرد قول زفر .

                                                وقال أحمد بن حنبل : إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس؛ صلوا الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل أن يطلع الفجر؛ صلوا المغرب والعشاء.

                                                وقال أحمد في المغمى عليه: يقضي الصلوات كلها التي كانت عليه في إغمائه ، وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ، ولا فرق عندهم بين النائم والمغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي ما فاته وإن كثر، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وروي ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين ، وروى ابن رستم عن محمد بن الحسن : أن النائم إذا نام أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه.

                                                [ ص: 183 ] قال أبو عمر : لا أعلم أحدا [قال] هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن ، فإن صح عنه هذا فهو خلاف السنة، لأنه قد ثبت عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" .

                                                وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها، فكذلك في القياس ما زاد عليها.

                                                قال أبو عمر : وأصح ما في هذا الباب في المغمى عليه يفيق: أنه لا قضاء عليه لما فاته من وقته، وبه قال ابن شهاب والحسن وابن سيرين وربيعة [و] مالك والشافعي [ وأبو ثور ] وهو مذهب عبد الله بن عمر : من أغمي عليه لم يقض شيئا مما فات وقته، وهذا القياس عندي، والله أعلم.

                                                الثاني: فيه دليل صريح في أن من صلى ركعة من العصر ثم دخل الوقت قبل سلامه لا يبطل صلاته بل يتمها، وهذا بالإجماع، وأما في الصبح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد ، إلا عند أبي حنيفة فإنه قال: يبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالت الشافعية : الحديث حجة على أبي حنيفة .

                                                ثم نقول: من وقف على ما استند عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه، وعرف أن غير هذا الحديث من الأحاديث حجة عليهم؛ فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وطرف لها، ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببا؛ لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن دخول بعض الوقت سبب وهو الجزء الأول لسلامته عن المزاحم، فإن اتصل به الأداء تقررت السببية، وإلا ينتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى أن يتمكن فيه من عقد التجزئة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحا بحيث لم ينسب إلى النقصان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر وجب عليه كاملا حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في صلاة الفجر؛ لأن ما وجب كاملا لا يتأدى بالناقض؛ كالصوم المنذور المطلق أو صوم القضاء، لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإن [ ص: 184 ] كان هذا الجزء ناقصا بأن صار منسوبا إلى النقصان كالعصر وقت الاحمرار وجب ناقصا؛ لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب فيتأدى بصفة النقصان؛ لأنه أدي كما لزم، كما إذا نذر صوم يوم النحر وأداه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم تفسد العصر؛ لأن ما بعد الغروب كامل فيتأدى فيه؛ لأن ما وجب ناقصا يتأدى كاملا بالطريق الأولى.

                                                فإن قيل: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت.

                                                قلت: لما كان الوقت متسعا جاز له شغل كل الوقت، فبعض الفساد الذي يتصل فيه بالعشاء؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر، والجواب عن الحديث ما ذكره الطحاوي : أن وروده كان قبل نهيه -عليه السلام- عن الصلاة في الأوقات المكروهة.

                                                الثالث: أن المراد من الإدراك: إدراك الوقت، لا أن ركعة من الصلاة من أدركها ذلك الوقت أجزأته من تمام صلاته.

                                                قال أبو عمر : هذا إجماع من المسلمين، لا يختلفون في أن هذا المصلي فرض عليه واجب أن يأتي بتمام صلاة الصبح وتمام صلاة العصر.

                                                وقال القاضي عياض : لا خلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزئه من الصلاة دون غيرها، وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة، فقيل: معناه: فضل الجماعة، وهو ظاهر حديث أبي هريرة هذا في رواية ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، وزيادته قوله: "مع الإمام" وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبد الله بن عمر ومعمر ، واختلف فيه عن يونس عنه، ويدل عليه إفراد مالك في التبويب في "الموطإ"، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرا "فقد أدرك الفضل"، ورواه بعضهم أيضا عن ابن شهاب ، وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال، وفي مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم [ ص: 185 ] تتحصل له الركعة، وذهب داود وأصحابه في أخرى: أن الحديث في إدراك الوقت؛ فجعلوه بمعنى الحديث الآخر: "من أدرك ركعة من الوقت قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" . وهما حديثان في شيئين لهما حكمان، وفيهما دليل على أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك لفضل تلك الصلاة ولا حكمها مما لزم إمامه من سجود سهو أو انتقال فرضه من اثنتين إلى أربع في الجمعة، أو انتقاله إلى حكم نفسه إن اختلف حالهما من السفر والإقامة، وهذا قول مالك والشافعي - في أحد قوليه - وعامة فقهاء الفتيا وأئمة الحديث.

                                                وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وأصحابهما والشافعي أيضا: أنه بالإحرام يكون مدركا حكم الصلاة، واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرة قبل غروب الشمس، واختلفوا في الظهر، فعند الشافعي - في أحد قوليه -: هو مدرك بالتكبيرة لهما لاشتراكهما في الوقت، وعنه: أنه بتمام القائمة للظهر يكون قاضيا لها، وهذا الإدراك يكون لمعنيين:

                                                أحدهما: أن يكون لمن أخر الصلاة وهو مدرك للأداء بإدراك ركعة، وليس يكون قاضيا بصلاته بعضها بعد وقتها كمدرك ركعة في صلاة الإمام، فله في جميعها حكم الإتمام، وقد يحمل الحديث على من كان بصفة المكلفين في هذا الحين فأدرك وجوب الصلاة أو حكما من أحكامها في هذا الوقت، فهو مدرك له، وهذا قول مالك وأصحابه في معنى الحديث، وهو الذي عبروا عنهم بأصحاب الأعذار، وذلك: الكافر يسلم، والصغير يبلغ، والحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق، والمسافر يقدم ويرحل.

                                                وهذه الركعة التي يكون بها مدركا للأداء والوجوب في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للإحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ويفصل بينهما، ويطمئن في كل ذلك على من أوجب الطمأنينة، فهذا أقل ما يكون به مدركا.

                                                [ ص: 186 ] وعلى من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة: يكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها، وأشهب لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة؛ أخذا بظاهر الحديث.

                                                وأما الركعة التي تدرك بها فضيلة الجماعة : فأن يكبر لإحرام قائما، ثم يركع ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه، هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأي وجماعة من الصحابة والسلف، وروي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة ما لم يدرك الإمام قائما قبل أن يركعها معه، وروي معناه عن أشهب من أصحابنا، وروي عن جماعة من السلف: أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه، وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام - كالناعس - اعتد بالركعة، وقيل: تجزئه وإن رفع الإمام ما لم يرفع الناس، وقيل: تجزئه إن أحرم قبل سجود الإمام.




                                                الخدمات العلمية