الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                [ ص: 264 ] 1886 ص: وذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان في القبلة فالصلاة كما روى أبو عياش وجابر - رضي الله عنهما -، وإن كانوا في غير القبلة فالصلاة كما روى ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -; لأن في حديث أبي عياش أنهم كانوا في القبلة، وحديث حذيفة وابن عمر وزيد لم يذكر فيه شيء من ذلك، إلا أنه قد روي عن ابن مسعود في ذلك ما يوافق ما رووا، وقال: كان العدو في غير القبلة.

                                                وقال أبو يوسف: فأصحح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود وما يوافقه إذا كان العدو في غير القبلة، وحديث أبي عياش وجابر إذا كان العدو في القبلة، وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا; لأنه قد يجوز أن يكون قوله: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك إذا كان العدو في غير القبلة، ثم أوحى الله تعالى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا في القبلة، ففعل الفعلين جميعا كما جاء الخبران، وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك وأولاها; لأن تصحيح الآثار يشهد له.

                                                وقد دل على ذلك أيضا أن عبد الله بن عباس قد روي عنه، عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف ما ذكرنا في أول هذا الباب مما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي - عليه السلام - في ذلك بذي قرد، وكان ذلك موافقا لما روى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيد - رضي الله عنهم - عن النبي - عليه السلام - في ذلك.

                                                ثم روي عن عبد الله بن عباس في ذلك من رأيه ما قد حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن صالح الهاشمي أبو بكر، قال: ثنا ابن لهيعة ، عن الأعرج ، أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن عباس يقول: "كان ابن عباس يقول في صلاة الخوف ... " فذكر مثل ما فعل النبي - عليه السلام - في حديث أبي عياش، وحديث جابر بن عبد الله الذي وافقه.

                                                فلما كان ابن عباس: قد علم من فعل النبي - عليه السلام - على ما رويناه عنه في حديث عبيد الله ، وقال: "وكان المشركون بينه وبين القبلة" ثم قال هذا برأيه، واستحال أن يكونوا يصلون هكذا والعدو في غير القبلة، ويصلون إذا كان العدو في

                                                [ ص: 265 ] القبلة كما روى عنه عبيد . الله; لأنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعدو في ظهورهم كان أحرى أن لا يستدبروها إذا كانوا في وجوههم.

                                                ولكن ما ذكرنا عنه من ترك الاستدبار هو إذا كان العدو في القبلة، ويحتمل أيضا أن يكون كذلك إذا كان العدو في غير القبلة كما قال ابن أبي ليلى، . فقد أحاط علمنا بقوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله، عن النبي - عليه السلام - إذا كان العدو في القبلة ولم نكن لنقول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدمه عنده، ولم نعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فجعلنا هذا الذي رويناه عنه من قوله هو في العدو إذا كانوا في القبلة، وتركنا حكم العدو إذا كانوا في غير القبلة على مثل ما رواه عنه عبيد الله عن النبي - عليه السلام -.

                                                التالي السابق


                                                ش: اعلم أنه روي عن أبي يوسف ثلاث روايات في صلاة الخوف.

                                                الأولى: أنها لا تصلى بعد النبي - عليه السلام - على ما يأتي.

                                                والثانية: مثل قول أبي حنيفة ومحمد .

                                                والثالثة: بالتفصيل، وهو أن العدو إذا كانوا في القبلة تصلى كما في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله، وهو أن يجعل الإمام الناس صفين، فيكبر ويكبرون معه جميعا، ثم إذا ركع يركعون معه جميعا وإذا رفع رأسه يرفعون رءوسهم معه جميعا، ثم إذا سجد يسجد معه الصف الذين يلونه ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، ثم إذا رفع الإمام رأسه من السجدة يرفع معه الصف الذين يلونه، ثم يسجد الصف الآخر، فإذا رفعوا رءوسهم من السجود يتأخر الصف المقدم ويتقدم الصف المؤخر، فيكبر الإمام ويكبرون معه جميعا، وإذا ركع يركعون معه جميعا وإذا رفع رأسه يرفعون معه جميعا، ثم إذا سجد الإمام سجد معه الصف الذين يلونه، ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، فإذا رفع الإمام رأسه يرفعون معه جميعا، ثم يسجد الصف الآخر، ثم يسلم الإمام معهم جميعا.

                                                وإن كان العدو في غير القبلة تصلى كما في حديث عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وهو أن يجعل الإمام الناس طائفتين، طائفة بإزاء

                                                [ ص: 266 ] العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعة إن كان مسافرا أو كانت صلاة الصبح، وركعتين إن كان مقيما والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة.

                                                وإنما فصل أبو يوسف بهذا التفصيل; لأن في حديث أبي عياش أنهم -أي العدو- كانوا في القبلة; لأنه قال فيه: "والمشركون بينه وبين القبلة"، وأما في حديث ابن عمر وحذيفة وزيد - رضي الله عنهم - فلم يذكر شيء من ذلك، غير أنه قد روي عن عبد الله بن مسعود في ذلك ما يوافق ما رووا، وقال في روايته: "كان العدو في غير القبلة"، وهو صرح بأنهم لم يكونوا في القبلة، وهو خلاف ما روي في حديث أبي عياش وجابر - رضي الله عنهما -، فإذا وقع خلاف بين الروايتين، الأصل فيه التوفيق ما أمكن وإليه أشار أبو يوسف بقوله: "فأصحح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود ... " إلى آخره، وأراد بتصحيح الحديثين العمل بهما بالتوفيق بينهما; وذلك أنه حمل حديث ابن مسعود وما يوافقه من أحاديث ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت على ما إذا كان العدو في غير القبلة وحمل حديث أبي عياش الزرقي وجابر على ظاهره على ما إذا كان العدو في القبلة، وبهذا التصحيح يكون العمل بالحديثين، بخلاف ما إذا عمل بأحدهما حيث يلزم الإهمال للآخر.

                                                ولما كان ها هنا سؤال وهو أن يقال: إن ما ذكرتم خلاف لما في الآية، فلا يجوز العمل بخبر يخالف ظاهره ظاهر القرآن.

                                                أجاب عنه بقوله: "وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا". وتقريره أن يقال: لا نسلم أن ما في حديث أبي عياش وجابر يخالف ظاهر الآية; لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا إذا كان العدو

                                                [ ص: 267 ] في غير القبلة، فتكون الآية مبينة لصورة الصلاة إذا كان العدو في غير القبلة، ثم بعد ذلك أوحى الله إلى نبيه - عليه السلام - كيف يكون حكم الصلاة إذا كان العدو في القبلة، فيكون النبي - عليه السلام - قد فعل الفعلين جميعا في الحالتين وبهما جاء الخبران.

                                                واختار الطحاوي أيضا ما ذهب إليه أبو يوسف من التوفيق المذكور حيث قال: "وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك" أي في باب صلاة الخوف و"أولاها" أي أحقها بالقبول والعمل; "لأن تصحيح الآثار يشهد له" يعني: إذا جمعت الأحاديث التي رويت في هذا الباب وكشف معناها ترجع كلها إلى المعنى الذي ذكره أبو يوسف، فيكون أولى الأقوال وأحقها بالعمل.

                                                قوله: "وقد دل على ذلك" أي على ما قاله أبو يوسف أن عبد الله بن عباس قد روى عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي - عليه السلام - بذي قرد ما يوافق ما رواه عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، وأراد بالموافقة المذكورة هي الموافقة في كيفية الصورة; وذلك أن المذكور فيما رواه عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس، هو أن النبي - عليه السلام - جعل الناس صفين صفا خلفه، وصفا بإزاء العدو ... إلى آخر ما ذكره، وهذا كالمذكور في أحاديث عبد الله بن مسعود وابن عمر وحذيفة وزيد، ثم روى عن عبد الله بن عباس من رأيه واجتهاده أنه ذهب في صلاة الخوف إلى ما ذكر في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.

                                                أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن عبد الله بن محمد بن صالح بن قيس الهاشمي ، عن عبد الله بن لهيعة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس .

                                                وذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش بعد روايته عن النبي - عليه السلام - ما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله يدل على أنهم كانوا يصلون هكذا والعدو في القبلة كما ذكر أيضا عبيد الله بن عبد الله في روايته عن عبد الله بن عباس: "والمشركون بينهم وبين القبلة; لأنه يستحيل أن يكونوا يصلون على ما في حديث أبي عياش والعدو في غير القبلة"; وذلك أنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعدو في ظهورهم فبالطريق

                                                [ ص: 268 ] الأولى أن لا يستدبروها إذا كانوا في وجوههم، ولكن المذكور عنه من ترك الاستدبار هو ما إذا كان العدو في القبلة.

                                                قوله: "ويحتمل أيضا ... " إلى آخره، إشارة إلى توجيه آخر لذهاب ابن عباس برأيه إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي، بيان ذلك أن يقال: يحتمل أن يكون ذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي سواء كان العدو في القبلة أو غيرها، كما ذهب إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، فحينئذ يكون قوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله عن النبي - عليه السلام - إذا كان العدو في القبلة، ولكن لا يمكن أن نقول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدم ذلك عنده -أي عند ابن عباس- ولا نعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فإذا كان كذلك حملنا قوله من رأيه على ما إذا كان العدو في القبلة، وتركنا روايته عن النبي - عليه السلام - التي رواها عنه عبيد الله بن عبد الله على مثل ما روى إذا كان العدو في غير القبلة، فافهم فإنه موضع دقيق مأخذه.




                                                الخدمات العلمية