الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3474 [ ص: 197 ] 1833 - (3484) - (1\368) عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا " قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال: نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، ثم قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات والدرجات؟ قال: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، أن تقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام".

التالي السابق


* قوله: "في أحسن صورة": قال زين العرب في "شرح المصابيح": هو حال من النبي صلى الله عليه وسلم; أي: رأيته وأنا في تلك الحالة في أحسن صورة وصفة، من غاية لطفه تعالى بي، وإنعامه علي، أو من المرئي، فالسلف على الإيمان بظاهر مثله، وتفويض أمر باطنه إليه تعالى، وبه يتمسك المجوز لرؤيته تعالى في المنام، أو أنه رآه في أحسن صفة في المنام; إذ الصورة كما ترد في كلامهم على ظاهرها، ومعنى حقيقة الشيء ترد على معنى صفته وهيئته; كما يقال: صورة الفعل كذا; أي: هيئته، وصورة الأمر كذا; أي: صفته; أي: رأيته أحسن إكراما ولطفا ورحمة علي من وقت آخر.

وقال ابن الجوزي: قد جاء في هذا المعنى أحاديث، وأحسنها إسنادا يدل على أن ذلك كان في المنام، ورؤيا المنام وهم، والأوهام لا تكون حقائق; فإن الإنسان يرى كأنه يطير.

وإن قلنا: إنه رآه في اليقظة، فالصورة إن قلنا: ترجع [ ص: 198 ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال إلى الله - سبحانه وتعالى - فالمعنى: رأيته على أحسن صفاته من الإقبال علي والرضا عني.

وقال القاضي في "شرح المصابيح": إذا قلنا: كانت رؤية في المنام، فلا إشكال; إذ الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلا، ويرى المتشكل غير متشكل، ثم لا يعد ذلك خللا في الرؤيا، ولا في الرائي، بل له أسباب أخر تذكر في علم المنامات، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - إلى التعبير.

وقال التوربشتي: مذهب أهل العلم من السلف في أمثال هذا الحديث أن يؤمن بظاهره، ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق، بل ينفى عنه الكيفية، ويوكل علم باطنه إلى الله; فإنه سبحانه يري رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشاء من وراء أستار الغيب مما لا سبيل لأحد على إدراك حقيقته بالجد والاجتهاد، فالأولى ألا يتجاوز هذا الحد; فإن الخطب فيه جليل، والإقدام عليه مزلة اضطربت عليها أقدام الراسخين شديد، ولأن نرى أنفسنا أحقاء بالجهل والنقصان، أزكى وأسلم من أن ننظر إليها بعين الكمال، وهذا لعمر الله هو المنهج الأقوم، والمذهب الأحوط.

* "فيم يختصم الملأ الأعلى": قيل: الملأ: الجماعة التي تملأ العيون رؤية، والقلوب مهابة وبهاء، والمراد هاهنا: الملائكة، سموا بذلك; لعلو مكانهم أو مكانتهم، وأريد باختصامهم: إما تبادرهم إلى ثبت تلك الأعمال في الصحائف، والصعود بها إلى السماء، وإما تقاولهم في فضلها؛ تشبيها له بما يجري بين المتخاصمين.

* "بين كتفي. . . إلخ": قد عرفت أن الوجه في مثله التفويض، ومن يرى [ ص: 199 ] التأويل يقول: المراد: أنه خصني بمزيد الفضل والإنعام حتى وجدت أثر ذلك الفيض في صدري، وعادة الكبار أن يفعلوا مثله بالصغار إذا تلطفوا معهم.

* "فعلمت ما في السموات وما في الأرض": أي: لا جميع ما في علم الله غير المتناهي.

* "في الكفارات والدرجات": الكفارة: عبارة عن الخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة; أي: تسترها وتمحوها.

* "ومن فعل ذلك عاش بخير": هو كقوله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [النحل: 97].

* "كيوم ولدته": المشهور بناؤه على - الفتح - .

* "فتنة": أي: ضلالة.

* "والدرجات": مبتدأ، وما بعده خبره; أي: ما يرفع به الدرجات، أو يوصل إلى الدرجات العالية هذه الخصال الثلاث; لأنه إذا عامل الخلق بأن قام بحقهم من بذل الطعام والسلام، وإذا ناموا، عامل الحق بالقيام بين يديه، نال الدرجات العلا لا محالة.

قيل: إنما عدت هذه الأشياء من الدرجات; لأنها فضل منه على ما وجب عليه، فلا جرم استحق بها فضلا، وهو علو الدرجات، بخلاف الأول، فإنه أداء للواجب عليه بصفة التمام، فلم يستوجب به فضلا، إلا أنه لما أداه صافيا عن النقصان، صفاه الله عن ذنوبه.

* * *




الخدمات العلمية