الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2604 [ ص: 31 ] 1534 - (2609) - (1\ 287 - 288) عن ابن عباس: أنه قال: ما نصر الله تبارك وتعالى في موطن، كما نصر يوم أحد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تبارك وتعالى، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [آل عمران: 152] - يقول ابن عباس: والحس: القتل - حتى إذا فشلتم [آل عمران: 152] - إلى قوله - ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين [آل عمران: 152]، وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا " فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم، وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعا، فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه - والتبسوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضا، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة، أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كانوا تحت المهراس، وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قد قتل، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتكفئه إذا مشى، قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، قال: فرقي نحونا، وهو يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله " قال: ويقول مرة أخرى: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا " حتى انتهى إلينا.

فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل - مرتين، يعني آلهته - أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال: "بلى " فلما قال: اعل هبل، قال [ ص: 32 ] عمر: الله أعلى وأجل. قال: فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب، إنه قد أنعمت عينها، فعاد عنها، أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال. قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا. ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلى ، ولم يكن ذاك عن رأي سراتنا. قال: ثم أدركته حمية الجاهلية، قال: فقال: أما إنه قد كان ذاك،
لم يكرهه.

التالي السابق


* قوله: "ما نصر الله - تبارك وتعالى - في موطن كما نصر يوم أحد": أي: ما نصر المؤمنين في موطن مثلما نصرهم يوم أحد أولا; كما يدل عليه آخر كلامه، ولكن حيث أطلق، أنكروا عليه ذلك حتى كشف لهم عن حقيقة الأمر، فعرفوا مراده.

قيل: أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر الفاسق، طلع في خمسين من قومه، فنادى: أنا أبو عامر، فقال المسلمون: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى ولى [أبو] عامر وأصحابه، وجعل الرماة يرشقون خيلهم بالنبل، فتولي هوارب، فصاح طلحة بن أبي طلحة صاحب اللواء: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فالتقيا بين الصفين، فبدره علي فضربه على رأسه حتى فلق هامته، فوقع، وهو كبش الكتيبة، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأظهر التكبير، وكبر المسلمون، وشددوا على كتائب المشركين يضربونهم حتى نقضت صفوفهم. [ ص: 33 ]

ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة، وحمل عليه حمزة، فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، ثم حمله أبو سعيد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص، فأصاب حنجرته، فأدلع لسانه إدلاع الكلب، ثم قتله، ثم حمله آخر، فرماه عاصم بن أبي ثابت، فقتله، ثم آخر، فرماه عاصم أيضا فقتله، ثم حمله كلاب بن أبي طلحة، فقتله الزبير، وكلما حمله واحد، قتله رجل من الصحابة، فلما قتل أصحاب اللواء، هرب المشركون، ولا يخفى أن هذا نصر عظيم، لكن ثم جرى ما أراد الله حين ترك الرماة موضعهم.

* "احموا": من حمى; كرمى; أي: منع وحفظ.

* "نقتل": على بناء المفعول.

* " فلا تشركونا": من شركه; كعلم.

* " أكب الرماة": أي: وقعوا.

* "جميعا": كان المراد: الغالب، وإلا ففي "صحيح البخاري": "فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله - أي: ابن جبير رئيس الرماة - عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا"، وفي "شرحه " قالوا: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، قد انهزم المشركون، فما مقامنا هاهنا; ووقعوا ينتهبون العسكر، وثبت أميرهم عبد الله في نفر يسير دون العشرة مكانه، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل، وحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، فاستدارت رجالهم، وحالت الريح فصارت دبورا بعد أن كانت صبا. [ ص: 34 ]

* "أخل": - بتشديد اللام - .

* "تلك الخلة": - بفتح فتشديد - أي: تلك الحاجة التي هي دفع العساكر من وراء الظهر; أي: قصروا فيها; من أخل بالشيء، أو المراد بالخلة: تلك البقعة، سميت خلة; لأنها محل الخلة بمعنى الحاجة; لأنها كانت محتاجة إلى وجود العسكر فيها; أي: تركوا تلك البقعة; من أخل الرجل بمركزه; أي: تركه، وعلى الوجهين النصب بنزع الخافض.

* "وجال المسلمون " أي: انكشفوا.

* "تحت المهراس": - بكسر الميم - : صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء، وقيل: اسم ماء بأحد.

* "فما زلنا": أراد: ما زال المسلمون، وإلا، فهو ما حضر هذه الوقعة، والله تعالى أعلم، ويحتمل أنه حكى هذا الكلام من بعض من حضر على الوجه الذي سمع منه.

* "فرقي": كرضي.

* "دموا": من التدمية.

* "اعل": - بضم همزة ولام - : أمر من علا.

* "هبل": - بضم ففتح بتقدير حرف النداء - ، وهو اسم صنم لهم; أي: كن عاليا; فقد نصرنا دينك، أو فقد نصرتنا على أعدائنا.

* "فقال عمر. . . إلخ": وفي "صحيح البخاري " أنهم ما أجابوه أولا، فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله - عز وجل - عليك ما يخزيك. [ ص: 35 ]

* "قد أنعمت": على بناء الفاعل; من أنعم: إذا أجاب بنعم; أي: إنها أجابت بنعم، يريد: أنه حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم: نعم، وعلى آخر: لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، وكان عادتهم ذلك إذا أرادوا ابتداء فعل.

* "عنها": - جار ومجرور - أي: ابتعد وتنح عنها، لا تذكرها بسوء، فقد صدقت في فتواها.

* "أو فعاد عنها": شك فيما قال; أي: قال: عنها، فقط، أو قال: فعاد عنها على صيغة الأمر من عادى.

* "أو فعال عنها": على صيغة الأمر من عالى بمعنى: تنح عنها، هكذا في أصلنا، وهو الذي في "الترتيب "، وهو الأقرب إلى خط "المجمع "، وهو الموافق لما في "النهاية"، ففيها ذكر في موضعين بلفظ: أنعمت فعال عنها، في باب نعم وعلا.

وفي بعض الأصول: "أنعمت عينها فعاد عنها، أو فعال عنها" بلفظ العين المضاف إلى ضميرها، وإسقاط حرف الشك من قوله: "أو فعاد عنها"، والظاهر أن أنعمت حينئذ يكون على بناء المفعول من أنعم الله عينه; أي: أقرها; أي: إنها قد أقرت عينها بظهور دينها، وارتفاع أمرها، وظهور صدقها في فتواها بنعم، فتنح عنها، ويمكن على بعد أن يقال: أنعمت على بناء الفاعل بالمعنى الذي سبق، وعينها من ألفاظ التأكيد; أي: أجابت هي بنعم عينها لا شيء آخر، والله تعالى أعلم.

* "قال هذا": هو تكرار لقال المذكور أولا. [ ص: 36 ]

* "دول": سبق أنها - مثلثة الدال مع فتح الواو - .

* "سجال": - بكسر سين - .

* "مثلى": جمع مثلة.

* "سراتنا": - بفتح السين - أي: عقلائنا ورؤسائنا.

* "إنه قد كان ذاك لم يكرهه": يحتمل أن مراده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ما كره ذاك; أي: فنحن كذلك لا نكرهه.

ويحتمل أن مراده: أن السراة كان ما يكره ذاك أيضا، وإفراد الضمير لإفراد اللفظ، وإن كان جمعا معنى.

ويحتمل أن يكون في "كان" ضمير الشأن، ولم نكرهه - بالنون - أي: كأن الشاك لم يكره ذاك، والله - تعالى - أعلم.

وفي "المجمع": فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وقد وثق مع ضعفه.

* * *




الخدمات العلمية