الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير :

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام : "لم لا تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " فأنزل الله عز وجل : وما نتنـزل إلا بأمر ربك ، وعنه أيضا ، وعن مجاهد : أن ذلك نزل حين احتبس جبريل عليه السلام بعد سؤال الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، وما سألوا عنه ، وقال : "غدا أخبركم " ، فأبطأ عنه الوحي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 272 ] وقوله : له ما بين أيدينا وما خلفنا : قال ابن عباس ، وابن جريج : ما مضى أمامنا من أمر الدنيا ، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة ، وما بين ذلك البرزخ .

                                                                                                                                                                                                                                      الأخفش : ما بين أيدينا : ما كان قبل أن نخلق ، وما خلفنا : ما يكون بعد أن نموت ، وما بين ذلك : ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت .

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان ربك نسيا : قيل : المعنى : لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي ، وقيل : المعنى : أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ، لا ينسى منها شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : هل تعلم له سميا أي : مثلا وشبها ، عن ابن عباس وغيره ، وعن ابن عباس أيضا : المعنى : هل تعلم أحدا سمي الرحمن إلا الله عز وجل ؟ وقيل : المعنى : هل تعلم أحدا يقال له : (الله ) إلا هو ؟ وقيل : المعنى : أن اسمه المذكور في هذه الآية لا يسمى به غيره ، وهو قوله : رب السماوات والأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 273 ] وقوله : ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا : روي : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      و (اللام ) في لسوف أخرج حيا : للتأكيد ؛ كأنه قيل له : إذا ما مت لسوف تبعث حيا ، فقال : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ؟ ! أي : قال ذلك منكرا ، فجاءت (اللام ) في الجواب كما كانت في القول الأول ، ولو كان مبتدئا ؛ لم تدخل (اللام ) ؛ لأنها للتأكيد والإيجاب ، وهو منكر للبعث .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فوربك لنحشرنهم والشياطين أي : لنحشرنهم من قبورهم بأوليائهم الشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا أي : جثيا على ركبهم ، عن مجاهد ، وقتادة ؛ أي : أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون عن القيام .

                                                                                                                                                                                                                                      {ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا : قال مجاهد ، وغيره : المعنى : نبدأ بالأكبر جرما ، فالأكبر .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : من كل شيعة : من كل أمة ، وقد تقدم اشتقاقها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى قوله : {عتيا} : تمردا ، وأصله : (عتوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا أي : نحن أعلم بالذين هم أحق بالعذاب ، و (الصلي ) : (فعول ) ؛ من قولهم : (صليت تصلى ) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 274 ] وقوله : وإن منكم إلا واردها : قال ابن عباس : ورودها : دخولها ، واستدل بقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، وقيل : يردها المؤمنون وهي خامدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الضمير المنصوب في {واردها} للقيامة ، ودل عليها : {لنحشرنهم} ، يقوي ذلك قوله في من سبقت له الحسنى : أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها [الأنبياء : 101- 102 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : ورودها : البلوغ إليها ، والممر عليها ، قاله قتادة وغيره ، ومنه قوله : ولما ورد ماء مدين [القصص : 23 ] ، وهو لم يدخل الماء ، وذلك مستعمل في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن قتادة قال : يرد الناس جهنم وهي سوداء مظلمة ، فأما المؤمنون ؛ فأضاءت لهم حسناتهم ، فنجوا منها ، وأما الكفار ؛ فأوبقتهم سيئاتهم ، فاحتبسوا بذنوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : (الورود ) : الجواز على الصراط .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : الحمى حظ كل مؤمن من النار ، وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، روى أبو هريرة : أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل مريض عاده : "إن الله عز وجل يقول : هي ناري ، أسلطها على عبدي المؤمن ؛ لتكون حظه من النار في الآخرة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الخطاب للمشركين خاصة ، فهو من العموم الذي يراد به الخصوص ؛ [ ص: 275 ] والمعنى : وإن منكم أيها الكفار الذين قال قائلهم : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا إلا واردها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى ثم ننجي الذين اتقوا : ننجيهم من ورودها ، فلا يردونها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا : (الندي ) : المجلس ، عن ابن عباس ، وعنه أيضا : المنظر ، وهو المجلس في اللغة ، وكذلك (النادي ) ، وقد تقدم القول فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : هم أحسن أثاثا ورئيا : قال ابن عباس : (الأثاث ) : المتاع ، و (الرئي ) : المنظر ، وواحد (الأثاث ) : (أثاثة ) ؛ كـ (حمام وحمامة ) ، قاله الأحمر .

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : لا واحد له ، ويجمع (آثة ) ، و (أثث ) .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ : {وريا} غير مهموز ؛ جاز أن يكون أصله الهمز ، فخففت الهمزة ، وجاز أن يكون من (ري الشارب ) ، وهو مذكور في الهمز في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ : {وزيا} ؛ بالزاي ؛ فهو الهيئة والحسن ، ويجوز أن يكون من (زويت ) ؛ أي : جمعت ، فيكون أصلها : (زويا ) ، فقلبت الواو ياء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "زويت لي الأرض " ؛ أي : جمعت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 276 ] وقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : التهدد والوعيد ، والمعنى : فليعش ما شاء ، وليوسع لنفسه في العمر ، فمصيره إلى الموت والعذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة أي : إما أن ينصر عليهم المسلمون فيعذبوهم بالسيف ، وإما أن تقوم الساعة ؛ فيصيروا إلى النار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي : سيعلمون إذا صاروا في النار من هو شر مكانا ، وسيعلمون إذا نصر الله المسلمين من هو أضعف جندا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى : قيل : يفعل ذلك بهم مجازاة لهم ، وقيل : يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية :

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، قيل : إن خباب بن الأرت طالبه بحق كان له عليه ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، فقال : لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث ، فقال : وإني لمبعوث ؟ فقال خباب : نعم ، قال : فإنه سيكون لي ثم مال وولد ، فأقضيك ؛ فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 277 ] الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أم اتخذ عند الرحمن عهدا : قال قتادة ، والثوري : أي : عملا صالحا ، وقيل : التوحيد ، وقيل : الوعد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ونرثه ما يقول : قال ابن عباس وغيره : المعنى : نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : نبقي عليه الإثم ، فكأنه موروث .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : نحفظ عليه ما يقول حتى نوفيه عقوبته عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ليكونوا لهم عزا أي : أعوانا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم : {كلا} : ردع ، وزجر ، وتنبيه ، ورد لكلام متقدم ، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه ؛ كقوله : كلا إن الإنسان ليطغى [العلق : 6 ] ، فلا يوقف عليها على هذا ، ويوقف عليها في المعنى الأول ، فإن صلح فيها المعنيان جميعا ؛ جاز الوقف عليها والابتداء بها .

                                                                                                                                                                                                                                      ويكونون عليهم ضدا أي : أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم ، عن مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      الضحاك : يكونون لهم أعداء .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : يكونون عليهم بلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 278 ] وقوله : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين أي : قيضنا لهم الشياطين ، ولم نعصمهم منهم ؛ مجازاة لهم على كفرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى تؤزهم أزا : تزعجهم إلى المعاصي ، عن قتادة ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فلا تعجل عليهم أي : لا تعجل بطلب العذاب لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      إنما نعد لهم عدا قال ابن عباس : أي : نعد أنفاسهم في الدنيا ، كما نعد سنيهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا : (الوفد ) : الركبان ، ووحد ؛ لأنه مصدر .

                                                                                                                                                                                                                                      علي ، وابن عباس : يحشرون على أقدامهم ، ثم يؤتون بنوق عليها أرحلة الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، ثم ينطلق بهم إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن جريج : {وفدا} : على النجائب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : يفدون على ما يحبون من إبل ، أو خيل ، أو سفن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنما قال : {وفدا} ؛ لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات ، وينتظروا الجوائز ؛ فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا : (السوق ) : الحث على السير .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهما : {وردا} : عطاشا ، وقيل : يعني به : ورودهم على النار ؛ فقيل لهم : (ورد ) ؛ كما يقال للواردين : (الماء ) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 279 ] وقوله : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا : قيل : المعنى : لا يملك الشفاعة يومئذ إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، فـ {من} : بدل من الضمير في {يملكون} ، وقيل : هي استثناء منقطع ؛ بمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا ؛ فإنه يشفع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      و (العهد ) : قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن يتبرأ من الحول والقوة إلى الله ، ولا يرجو إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن جريج : هو العمل الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      الليث : هو حفظ كتاب الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                      مقاتل : هو الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لقد جئتم شيئا إدا أي : منكرا عظيما ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      تكاد السماوات يتفطرن منه أي : يتشققن .

                                                                                                                                                                                                                                      وتخر الجبال هدا أي : تسقط بصوت شديد .

                                                                                                                                                                                                                                      أن دعوا للرحمن ولدا أي : لأن دعوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ؛ لأن الولد يشبه الوالد ، والله تعالى ليس بذي جنس ، وليس كمثله شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : سيجعل لهم الرحمن ودا : قال مجاهد : يحبهم ويحببهم إلى خلقه ، وروي معناه عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 280 ] وروي : أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف حين هاجر ، واستوحش من فراق أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فإنما يسرناه بلسانك أي : أنزلناه بلغتك ، وسهلناه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وتنذر به قوما لدا : قال قتادة : ذوي جدل .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو صالح : عوجا عن الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : (الألد ) : الظالم الذي لا يستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : (اللد ) : الصم .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة : (الألد ) : الذي لا يقبل الحق ، ويدعي الباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} : ابن عباس وغيره : (الركز ) : الصوت : وهو في اللغة : الصوت الخفي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية