الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
قال الشيخ تقي الدين : يستدل على كراهة الاغتسال بالأقوات ; بأن ذلك يفضي إلى خلطها بالأدناس والأنجاس فنهى عنه كما نهى عن إزالة النجاسة بها ، والملح ليست قوتا وإنما يصلح بها القوت نعم ينهى في الاستنجاء عن قوت الآدميين والبهائم للإنس والجن هذا لا يستنجى بالنخالة وإن غسل يده بها ، فأما إن دعت الحاجة إلى استعمال القوت ، مثل الدبغ بدقيق الشعير أو التطبب للجرب باللبن والدقيق ، ونحو ذلك فينبغي أن يرخص فيه كما رخص في قتل دود القز بالتشميس ; لأجل الحاجة إذ لا تكون حرمة القوت أعظم من حرمة الحيوان ، وبهذا قد يجاب عن الملح أنها استعملت لأجل الحاجة .

وعلى هذا فقد يستدل بهذا الأصل الشرعي على المنع من إهانتها بوضع الإدام فوقها كما ذكره الشيخ عبد القادر ودليل آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر بلعق الأصابع والصحفة وأخذ اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها } كل ذلك ; لئلا يضيع شيء من القوت ، والتدلك به إضاعة له لقيام غيره مقامه وهو من أنواع التبذير الذي هو من فعل الشيطان . وسئلت عن مثل هذه وهو غسل الأيدي بالمسك فقلت : إنه إسراف بخلاف تتبع الدم بالقرصة الممسكة فإنه يسير لحاجة وهذا كثير لغير حاجة فاستعمال الطيب في غير التطيب وغير [ ص: 212 ] حاجة كاستعمال القوت في غير التقوت وغير حاجة ، وحديث البقرة : إنا لم نخلق للركوب يستأنس به في مثل هذا .

ويستدل على ما فعله أحمد من مسح اليد عند كل لقمة بأن وضع اليد في الطعام يخلط أجزاء من الريق في الطعام فهو في معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من التنفس في الإناء لكن يسوغ فيه ; لمشقة المسح عند كل لقمة فمن يحشم المسح ، فذلك حسن منه ، انتهى كلامه ، وظاهر كلام الأصحاب رحمهم الله أنه لا يكره غسل اليد بطيب ولو كثر لغير حاجة ويتوجه تحريم الاغتسال بمطعوم كما هو ظاهر تعليل الشيخ تقي الدين .

وقال أبو الحسن الآمدي ذكر الشيخ أبو عبد الله بن حامد أن من السنة لمن أراد الأكل أن يخلع نعليه ، وروى فيه حديثا قال : والأكل على السفر أولى من الأكل على الخوان روى البخاري عن أنس قال { لم يأكل النبي على خوان وما أكل خبزا مرققا حتى مات } . وله أيضا عنه { ما علمت النبي أكل على سكرجة قط ولا خبز له مرقق قط ، ولا أكل على خوان قط } قيل لقتادة على ما كانوا يأكلون قال على السفر . رواه أحمد والترمذي وزاد حتى مات . ومن تتمة كلام ابن حامد قال : ويكره أن يعيب الأكل قال : وإذا كان مع الجماعة فقدم إليه لون واحد أكل مما يليه ، وإن كان وحده فلا بأس أن تجول يده ، فإن بدأ بالطعام ثم أقيمت الصلاة ابتدأ إلى الصلاة لحديث اللحم ، انتهى كلامه . وكلام بعضهم يخالف ما ذكره في المسألة الأخيرة ، وكراهة عيب الأكل أولى مما تقدم من تحريمه .

والخبر المذكور في الصحيحين عن عمرو بن أمية الضمري قال : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة فأكل منها فدعي إلى الصلاة ، فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ } . قال مهنا : سألت أحمد عن حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوه نهشا فإنه أهنأ وأمرأ } قال ليس بصحيح واحتج بهذا الحديث ، واحتج بعض أصحابنا بهذا النص عن أحمد أنه لا بأس به . وحديث عمرو بن أمية خلاف [ ص: 213 ] هذا وحديث المغيرة وهذا الخبر

رواه أبو داود وغيره من رواية أبي معشر وهو ضعيف عند الأكثر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا وعده النسائي من مناكير أبي معشر .

وقال البيهقي إن صح فإنما أراد به أن إذا نهشه كان أطيب كالخبر الأول يعني ما رواه أبو داود وغيره عن صفوان بن أمية قال { كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ اللحم من العظم فقال : أدن العظم من فيك فإنه أهنأ وأمرأ } . وهذا الخبر فيه ضعف وانقطاع وكذا رواه أحمد ورواه أيضا من طريق أخرى ضعيفة بمعناه وكذا رواه الترمذي .

لكن قال الأصحاب لا بأس بذلك في هذا الحكم وهذا الذي قاله البيهقي رأيت بعض أصحابنا يقول : لعل كلام أبي داود يدل عليه وكلام أحمد لا يخالفه ولم أجد من صرح بأن النهش منه ليس بأولى ، وقد أخذ الذراع المسمومة فنهش منها نهشة .

واستعماله السكين قضية عين يحتمل أنه لقوة اللحم وصعوبته أو غير ذلك ، ويحتمل أنه ; لبيان الجواز ولا يمنع أن غيره أولى لكن الكراهة لا تظهر ، وفي شرح مسلم قالوا : ويكره من غير حاجة كذا قال .

وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل والإسناد صحيح عن المغيرة بن شعبة قال { ضفت النبي ذات ليلة فأمر بجنب فشوي قال فأخذ الشفرة فجعل يجز لي بها منه } .

وأما تقطيع الخبز بالسكين فلم أجد فيه كلاما ويتوجه لا بأس به لحاجة وإلا احتمل أن يكره ; لعدم نقله وفعله شرعا بخلاف اللحم وقد يحتمل أن تركه أولى فقط وهو نظير الأكل على الخوان ، والأكل بالملعقة لغير حاجة ، ويحتمل أنه لا بأس به ; لعدم النهي وما يروى من النهي عن قطع الخبز بالسكين فلا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأحمد عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجبنة فجعلوا يضربونها بالعصي فقالوا ضعوا السكين واذكروا اسم الله وكلوا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية