الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفة مقتله وزوال دولته

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها ، منتهكا محارم الله ، عز وجل ، لا يتحاشى من معصية ، وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين . فالله أعلم . لكن الذي يظهر أنه كان عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي ، لا يتحاشى بها من أحد ولا يستحي من أحد قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله ، قال : أشهد - بعدا له - أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا ، ولقد أرادني على نفسي الفاسق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى المعافى بن زكريا ، عن ابن دريد ، عن أبي حاتم ، عن العتبي أن [ ص: 171 ] الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها سفرى فأحبها ، فبعث إليها يراودها عن نفسها ، فأبت عليه ، فألح عليها ، وعشقها ، فلم تطاوعه ، فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم ، فذهب الوليد إلى بستان هناك ، فتنكر وأظهر أنه مصاب ، فخرج النساء من الكنيسة إلى البستان ، فرأينه فأحدقن به ، فجعل يكلم سفرى ويمازحها وتضاحكه ولا تعرفه ، حتى اشتفى من النظر إليها ، فلما انصرفت قيل لها : ويحك ! أتدرين من هذا الرجل ؟ فقالت : لا . فقيل لها : هو الوليد . فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك ، وكانت عليه أحرص منه عليها . فقال الوليد في ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أضحى فؤادك يا وليد عميدا صبا قديما للحسان صيودا     من حب واضحة العوارض طفلة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      برزت لنا نحو الكنيسة عيدا     ما زلت أرمقها بعيني وامق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حتى بصرت بها تقبل عودا     عود الصليب فويح نفسي من رأى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      منكم صليبا مثله معبودا     فسألت ربي أن أكون مكانه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأكون في لهب الجحيم وقودا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال فيها أيضا لما ظهر أمره ، وعلم بحاله الناس ، وقيل : إن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا حبذا سفرى وإن قيل إنني     كلفت بنصرانية تشرب الخمرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] يهون علي أن نظل نهارنا     إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار النهرواني ثم البغدادي بعد إيراده هذه الأبيات : للوليد في هذا النحو من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره ، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة ، فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر وهو راكب على فرسه ، ومعه اثنان من أصحابه ، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي أبو الفرج : أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريون مجموعة ومفردة ، وقد جمعت شيئا من سيره وآثاره ، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقه وسفاهته ، وحمقه وهزله ، ومجونه وسخافة دينه ، وما صرح به من الإلحاد في القرآن العزيز ، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه ، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف ، وباطله بحق نبيه شريف ، وتوخيت رضاء الله ، عز [ ص: 173 ] وجل ، واستيجاب مغفرته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا سليمان بن أبي شيخ ، ثنا صالح بن سليمان قال : أراد الوليد بن يزيد الحج ، وقال : أشرب فوق ظهر الكعبة . فهم قوم أن يفتكوا به إذا خرج ، فجاءوا إلى خالد بن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى ، فقالوا له : فاكتم علينا . فقال : أما هذا فنعم . فجاء إلى الوليد فقال له : لا تخرج ، فإني أخاف عليك . فقال : ومن هؤلاء الذين تخافهم علي ؟ قال : لا أخبرك بهم . قال : إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر . قال : وإن بعثت بي إلى يوسف . فبعثه إلى يوسف فعذبه حتى قتله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ، ثم سلمه إلى يوسف بن عمر يستخلص منه أموال العراق فقتله . وقد قيل : إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه ، فما زال يعاقبه ، ويستخلص منه حتى قتله ، فغضب أهل اليمن من قتله ، وخرجوا على الوليد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزبير بن بكار : حدثنا مصعب بن عبد الله قال : سمعت أبي يقول : [ ص: 174 ] كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل في المجلس : كان زنديقا . فقال المهدي : خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد بن عمير بن جوصاء الدمشقي : ثنا عبد الرحمن بن الحسن ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا حصين بن الوليد عن الأزهري بن الوليد قال : سمعت أم الدرداء تقول : إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما ، لم تزل طاعة مستخفا بها ، ودم مسفوكا على وجه الأرض بغير حق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية