الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 678 ] وفيها توفي :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد فقام بأمرها من بعده ولده محمد فقصده المعتضد ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله فحاصره بها فخرج إليه سامعا مطيعا فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهله وأحسن إليه واستخلف عليها ولده المكتفي ثم سار إلى قنسرين والعواصم فتسلمها عن كتاب هارون بن خمارويه وإذنه له في ذلك ومصالحته له على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها غزا ابن الإخشيد بأهل طرسوس بلاد الروم ففتح الله على يديه حصونا كثيرة ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي أحد الأئمة في الفقه والحديث وغير ذلك وكان زاهدا عابدا تخرج بأحمد بن حنبل وروى عنه كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الدارقطني : إبراهيم الحربي إمام مصنف عالم بكل شيء بارع في كل علم صدوق كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 679 ] وقال إبراهيم الحربي : أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه . وكان يقول : الرجل الذي يدخل غمه على نفسه ولا يدخله على عياله ، وقد كانت بي شقيقة منذ خمس وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحدا قط . وذكر أنه مكث نيفا وسبعين سنة من عمره ما يسأل أهله غداء ولا عشاء بل إن جاءوه بشيء أكله وإلا طوى إلى الليلة القابلة وذكر أنه أنفق في بعض الرمضانات على نفسه وعياله درهما واحدا وأربعة دوانيق ونصفا ، وما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئا إنما هو باذنجان مشوي أو باقة فجل أو نحو هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد بعث إليه أمير المؤمنين المعتضد في بعض الأحيان بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها وردها فرجع الرسول وقال : يقول لك الخليفة فرقها على من تعرف من فقراء جيرانك ، فقال : هذا شيء لم نجمعه ولا نسأل عن جمعه فلا نسأل عن تفريقه ، قل لأمير المؤمنين إما يتركنا وإلا نتحول من بلده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصحابه يعوده فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس بالملح وربما عدموا الملح في بعض الأحيان ، فقال لها إبراهيم : يا بنية تخافين الفقر ؟ انظري [ ص: 680 ] إلى تلك الزاوية ففيها اثنا عشر ألف جزء قد كتبتها في العلم ، ففي كل يوم بيعي منها جزءا بدرهم ، فمن عنده اثنا عشر ألف درهم فليس بفقير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم كانت وفاته لسبع بقين من ذي الحجة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي عند باب الأنبار وكان الجمع كثيرا جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المبرد النحوي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس الأزدي الثمالي المعروف بالمبرد النحوي البصري إمام في اللغة والعربية أخذ ذلك عن المازني وأبي حاتم السجستاني وكان ثقة ثبتا فيما ينقله وكان مناوئا لثعلب وله كتاب " الكامل " في الأدب وإنما سمي بالمبرد لأنه اختبأ من الوالي عند أبي حاتم تحت المزملة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد : دخلنا يوما على المجانين نزورهم أنا وأصحاب معي بالرقة ، فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان عليه ثياب ناعمة ، فلما أبصر بنا قال : حياكم الله ممن أنتم ؟ قلنا : من أهل العراق ، فقال : بأبي العراق وأهلها أنشدوني أو أنشدكم ؟ قال المبرد : فقلت : بل أنشدنا أنت . فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبث ما أجد [ ص: 681 ]     روحان لي روح تضمنها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بلد وأخرى حازها بلد     وأرى المقيمة ليس ينفعها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صبر ولا يقوى لها جلد     وأظن غائبتي كشاهدتي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بمكانها تجد الذي أجد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد : فقلت : والله إن هذا لظريف فزدنا منه . فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم     ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأبرزت من خلال السجف ناظرها     ترنو إلي ودمع العين ينهمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وودعت ببنان عقده عنم     ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويلي من البين ماذا حل بي وبهم     من نازل البين حان البين وارتحلوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا راحل العيس عجل كي أودعهم     يا راحل العيس في ترحالك الأجل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إني على العهد لم أنقض مودتهم     فليت شعري لطول العهد ما فعلوا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال رجل من البغضاء الذين معي : ماتوا ، فقال الشاب : إذا أموت ، فقال : إن شئت ، فتمطى واستند إلى سارية عنده ومات وما برحنا حتى دفناه رحمه الله . ومات المبرد وقد جاوز السبعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية